كانت الأيام الأولى للنسخة 22 من نهائيات كأس العالم، كافية لدولة قطر لكتابة صفحة جديدة من رسائلها نحو العالم، على اعتبار أن ما عاشه زوار هذه "الإمارة الصغيرة" من يوميات، قد أعاد تشكيل وعي الغرب اتجاه العرب والمسلمين، كما تسبب في انهيار الصورة النمطية التي حاول بعض "المتعصبين" رسمها عن العرب، فلطالما أظهرت وسائل الإعلام الأجنبية وخاصة الأوروبية منها الإنسان العربي في شكل بدوي متوحش مُعاد للحداثة والتطور أو شخص متطرف يرفض مبدأ السلم والتعايش، ولكن مع مرور أيام قليلة عن انطلاق المحفل العالمي تفاجأ زوار قطر بوجود صورة إيجابية، فالنسخة 22 من نهائيات كأس العالم كانت بمثابة المصباح الذي أنار درب هؤلاء المشجعين الذين قدموا من كل القارات (أكثر من 1.2 مليون وفدوا إلى قطر في أكبر حالة سفر عالمية بعد الحج)، دون أدنى مخاوف أو قلق، فيُطل هؤلاء من مدرجات الملاعب الاستثنائية الثمانية، ومن شوارع قطر ومساجدها وحدائقها ومسارحها على صورة مغايرة للإنسان العربي بثوابته الراسخة وبروحه المبدعة، ووجدانه الإنساني المنفتح. وكانت دولة قطر التي رفعت تحدي احتضان أكبر تظاهرة رياضية في العالم، قد تعرضت لحملات "مسعورة" قبل وأثناء استضافتها للمونديال، وهذا لثني الشعوب الغربية عن التوجه إلى هذا القطر العربي، وبالتالي العمل على إفساد المونديال، غير أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل والإخفاق، على اعتبار أن قطر قد حطمت الأرقام من حيث عدد الحضور فوق المدرجات خلال مباريات الجولات الأولى فقط، كما يُتوقع أن يتجاوز عدد القادمين إلى قطر 2.5 مليون شخص، محطمين بذلك الصورة النمطية، لهجرة الشرق نحو الغرب وليس العكس. ولطالما كان العرب على مدار السنون منبهرين بكل ما هو غربي، وتجسد ذلك ب"الهجرة" نحو البلدان الأوروبية، خاصة بالنسبة لسكان شمال إفريقيا، بحثا عن حياة أفضل، غير أن النظرة تغيرت منذ انطلاق مونديال قطر، وملامح التحوّل أصبحت بادية في تصريحات وتعليقات الكثير من الوافدين على "الإمارة الصغيرة" التي أبهرت العالم على كل المستويات، لتعيد بذلك الاعتبار لكل ما هو عربي، فقد باتت قطر مركز الاهتمام العالمي، عقب النجاح الباهر في تسيير هذه البطولة الكبرى، إلى درجة أرغمت "العدو" لرفع قبعة الاعتراف، ويكفيها فخرا ثناء كبار اللاعبين والمدربين، فعلى سبيل المثال لا الحصر أشاد مدرب منتخب إسبانيا لويس أنريكي بالتنظيم المبهر، مؤكدا أن الأمور التي قيلت عن قطر تخالف الواقع وفي هذا الصدد قال:" الأمور تسير بشكل رائع والبطولة فريدة من نوعها في كل شيء، وموقع إقامتنا في جامعة قطر جميل للغاية والجميع مسرور". ولم يقتصر النجاح في تغيير الصورة "القاتمة" عن قطر والبلدان العربية والإسلامية على الجوانب التنظيمية واللوجستيكية فقط، بل تعداه إلى جوانب أخرى، تتعلق بكرم الضيافة وحسن استقبال الزوار، وكلها أمور زادت من جماليات المونديال، فقد سجل كثير من المشجعين انبهارهم من مستوى الضيافة والاحتضان الشعبي، زيادة على مستويات الكرم العالية التي قابل بها القطريون ضيوفهم، والتي تضمنت على المستوى الرسمي هدية لكل مشجع في المباراة الافتتاحية التي جمعت قطر والإكوادور، وفي المباريات الأخرى، كما تنوعت على المستوى الشعبي، إذ تُظهر مقاطع فيديو متداولة مشاهد يومية لتوزيع القهوة والحلويات والمشروبات على الجماهير الرياضية أمام الملاعب وفي الأسواق والشوارع، في خطوة استحسنها الأجانب كثيرا، خاصة وأنه لم يسبق لهم معايشة مثل هذه الأشياء، في مختلف نهائيات كأس العالم الماضية التي احتضنتها بلدان كبرى. وفضلا عن كل هذا، فقد كان تأثر الغرب بالثقافة العربية والإسلامية واضحا للعيان، خاصة بالنسبة للجماهير البعيدة كل البعد عن التطرف والعنصرية والاستعلاء، فكانت رسائل الأذان دافعا للبعض للتوقف والتأمل، فيما سجلت مؤشرات الدخول اليومي في الإسلام ارتفاعا متواصلا، وسط إقبال الزوار على بعض المساجد، كما جربت نساء غربيات بدعوة من سيدات في قطر ارتداء الحجاب لأول مرة، بينما تسابق المشجعون لارتداء "الغترة" ولبس العقال وتكفل قطريون بمساعدتهم على الظهور بهذا الشكل الخليجي، الذي طالما تم تسويقه في بعض وسائل الإعلام الغربية ذات التوجهات اليمينية، على أنه لباس تطرف. انبهار ضيوف المونديال العربي كان أكبر بأجواء الأمن والأمان التي ميزت مدن الإمارة، والتي مكنت الكثير من المشجعين القادمين من مختلف بقاع العالم من استعادة أشياء أضاعوها بالخطأ، وقربت الإسعاف والخدمات الطبية، وجمعت الشعوب في ديوانية الدوحة المفتوحة، التي تفوح بنفحات التلاحم الإنساني.