اختار ميلان كونديرا العُزلة كأسلوب في حياته التي بدأت صاخبةً، بقصّة انشقاقٍ مُعلن ومجدٍ خدمته السيّاسة من دون أن تفسد للأدب قضيّة. الكاتبُ الذي توفي الأسبوع الماضي، أغلق الأبواب أمام الصّحافة والحياة العامة منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وعاش في دائرة ضيّقة في "منفاه" الباريسي منصرفًا للكتابة، وهو بذلك يقدّم درسًا "للمنشقّين" المتأخرين فحواه أن البقاء الأدبي يقتضي الإخلاص للأدب، الذي سيبقى حين تنطفئ الأضواء وتتوقّف الرعاية السيّاسيّة والإعلاميّة، وأن بيت الكاتب هو ذاته، ضاقتِ الأوطان أم اتسعت. صحيحٌ، أن الدوائر الأدبيّة والإعلاميّة الفرنسيّة هي التي قدّمت كونديرا للعالم، بعد توبته من الشيوعيّة وقطيعته مع بلده الأم تشيكوسلوفاكيا، لكنّ الدوائر ذاتها هي التي أعلنت نهايته، حين رأت أنّ صاحب "المُزحة" لم يعد له ما يقوله، و أنه يتغذى على وقائع لم تعد راهنة، بل إنّ أعماله الأخيرة في تقدير نقاد فرنسيين باتت تُحمّل "فنّ الرواية" فوق ما يحتمل، كونها تحفل بآراء وتأملات فلسفيّة أفسدت نصوصه. و مثلما دفعت السيّاسةُ الكاتبَ إلى واجهةِ الأدب العالمي فإنّها ظلّت تطارده إلى أيامه الأخيرة، ليس من خلال النّبش في ماضيه الشيّوعي واتهامه بالوشاية بمناضلٍ فحسب، بل بالتّشكيك، أيضًا، في حبّه لوطنه الأمّ، حيث هاجمته الصّحافة التشيكية لرفضه ترجمة أعماله المكتوبة بالفرنسيّة إلى التشيكية، رغم المبرّرات الأدبيّة التي ساقها وأكد من خلالها صعوبة ترجمة نصوصه من دون تشويه، وهو الذي اشتكى من تشويه المترجمين الفرنسيين لأعماله الأولى المكتوبة بالتشيكية. وهكذا ظلت علاقته ببلده متوترة رغم استعادته جنسيته الأصلية سنة 2019. ولم تنفع كونديرا في نهاية المطاف سوى أعماله التي انتشرت في عشرات اللّغات بفرادتها وغرابتها وحفرها في دهاليز الذات الإنسانيّة وسخريتها الجادة وتحولات أبطالها غير المتوقعة، لم ينفع الكاتب سوى أدبه الذي وضعه بين كبار الكتّاب العالميين وحب قرائه في مختلف القارات واللّغات، أما الصّخب الإعلامي فقد انتهى بمجرّد انتهاء الحاجة إليه، وكذلك انتهى حبّ رئيس جمهورية بلد الاستقبال وإعجابه، وربما قدّمت سيرةُ هذا الكاتب درسًا بالمجّان لمُنشقّي العصر والأوان من الكتّاب، في بلد الاستقبال ذاته مع اختلاف في المنشأ، وقد تطرّفوا في يمينيّتهم و تجاوزوا أهل الدار في الدّفاع عن الدار.