يداهم الظلام سريعا قاعدة الحياة التي أقامتها شركة كوسيدار العملاقة بمنطقة جبلية شرقي قالمة، و يلتحق مهندس الجيولوجيا (ب. يعقوب) بمركز المتابعة و القيادة لإنجاز برنامج تلك الليلة، في بداية مشروع عملاق أطلقته الحكومة لبناء خط منجمي استراتيجي يمتد على مسافة 421 كلم و يعبر 5 ولايات، بينها قالمة التي تقطعها مسافة 54 كلم من المشروع الوطني الهام الذي تشرف على إنجازه سواعد جزائرية و تعول عليه المنطقة كثيرا من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية. يجلس يعقوب أمام حاسوب و تحيط به أوراق و مخططات و ملفات تقنية ترصد كل كبيرة و صغيرة تتعلق بالطبيعة الجيولوجية للمنطقة على السطح المكشوف الظاهر للعيان، و ما تخفيه الطبيعة من أسرار في باطن الأرض من حيث ستمر قطارات المستقبل محملة بالسلع و المواد المنجمية الموجهة للتصنيع و التصدير في إطار التحول الاقتصادي الذي تنتهجه البلاد لبلوغ مرحلة التنوع و بناء اقتصاد بديل لثروة النفط و الغاز. و قبل أن تغرب شمس ذلك اليوم كان يعقوب و معه فريق من المهندسين و التقنيين على أهبة الاستعداد لبداية المهمة في ليلة مقمرة شديدة البرودة، فالعمل هنا لا يتوقف ليلا و نهارا في تحد كبير ترفعه الكوادر الجزائرية و العمالة المدربة لقيادة المشاريع العملاقة التي ظلت حكرا على الخبرة الأجنبية و العمالة القادمة من وراء البحر، فالجزائر اليوم تُحصي كفاءات بشرية قادرة على إنجاز المهمة فوق الأرض و تحت الأرض، كوادر شابة تخرجت من الجامعة الجزائرية و اكتسبت خبرتها من تجارب الميدان بإرادة و عزم على المضي خطوة إلى الأمام في مسار البناء الوطني و قيادة كبرى المشاريع التي تعول عليها الأمة لتأمين المستقبل في ظل التحولات الإقليمية و الدولية المتسارعة. النصر رافقت والي قالمة حورية عقون و مساعديها في مهمة ليلية بمشروع بناء الخط المنجمي العابر للإقليم الشرقي للولاية على مسافة 54 كلم، و تابعت مغامرات و تحديات العمل تحت الأضواء الكاشفة و ضوء القمر الذي أطل مكتملا في تلك الليلة من خلف جبال بني صالح التاريخية محاولا إضاءة المكان و دعم الكاشفات الكهربائية العملاقة التي لا ينبغي لها أن تنطفئ ليلة كاملة بقاعدة الحياة و مركز القيادة و مواقع الحفر و ضخ الخرسانة، تمهيدا لبناء أول نفق بالمسار العابر للمنطقة قرب قرية بوكموزة العريقة على الحدود المتاخمة لولاية الطارف، هنا رأينا كيف تتحدى الكوادر الجزائرية الشابة الطبيعة و الزمن و ما يخفيه باطن الأرض من كائنات جيولوجية قد تعيد الحسابات الهندسية و ربما قد تغير جداول الزمن الافتراضية كما قال مدير المشروع عقون عادل متحدثا للوفد الذي حل ضيفا عليه في تلك الليلة. البداية من مخازن الأمن الغذائي في طريقنا إلى مشروع بناء الخط المنجمي توقفنا بمشروع آخر من مشاريع خطوط السكة بمنطقة بوشقوف، أين تعمل الوكالة الوطنية للدراسات و متابعة إنجاز الاستثمارات في السكك الحديدية «أنسريف» على ربط مخازن القمح العملاقة بخط السكة القديم الذي يعبر المنطقة منذ عقود طويلة، و سيكون بعد 3 سنوات مدعما بخط جديد لإعطاء حركية كبيرة لنقل السلع و البضائع و المواد المنجمية و المسافرين. و بعد انتهاء مشروع الربط بحلول شهر فيفري 2024 ستنتهي مشاكل نقل القمح عبر الطرقات الرئيسية لا سيما الطريق الوطني 16 الموازي لخط السكة المنجمي و خط السكة القديم. و قد ظلت شاحنات القمح تعيق حركة السير بالمنطقة و تلحق المزيد من الأضرار بالطرقات المعبدة، مما دفع بالسلطات العمومية إلى تسجيل مشروع الربط الذي دخل مرحلة متقدمة و قد يكتمل قبل الآجال المحددة. كان موقع العمل أشبه بخلية نحل، عمالة مدربة تصهر معدن الحديد لبناء توصيلات متينة بين القضبان، و مهندسون يراقبون مسار الخط و قوالب الخرسانة المسلحة، و على مسافة بعيدة يقف مهندسو الطوبوغرافيا خلف أجهزة قياس الأبعاد و يحرسون على استقامة المسار الذي ستعبره القطارات مستقبلا لتفريغ و شحن القمح المحلي و المستورد، في حركة دؤوبة لا تتوقف حفاظا على الأمن الغذائي للبلاد. في هذا الموقع قد تنتهي عملية البناء قبل شهر من الآجال التعاقدية حسب مسؤولي شركة البنية التحتية للسكة الحديدية «آنفرا راي» التي تنجز مشروع الربط المكون من خطين متوازيين يصلان صوامع القمح بشبكة السكك الوطنية. كفاءات جزائرية تتحدى الطبيعة قرب مدينة بوشقوف، ثالث كبرى مدن ولاية قالمة وفي بداية البرنامج الليلي تشق الجرافات و الحفارات القوية طريقها وسط أرضية مشبعة بالأمطار المتساقطة على المنطقة منذ أيام قليلة، و بالكاد تدك معدات الضغط أساسات خط السكة المنجمي تحت مراقبة مشددة من مهندسي الأشغال العمومية و الجيولوجيا و ميكانيك التربة من خيرة كوادر شركة «جي.سي.بي» الجزائرية العملاقة التي اكتسبت خبرة كبيرة في إنجاز المشاريع الكبرى عبر الوطن، و قد حطت الرحال بقالمة للمساهمة في إنجاز الخط المنجمي إلى جانب العملاق كوسيدار و شركات وطنية أخرى. كانت الأرض تهتز من تحت أقدامنا عندما تقترب منا آليات ضغط الطبقات الأرضية لتشكيل قاعدة متينة لخط السكة الذي سيتحمل أوزانا كبيرة عندما تعبره القاطرات المحملة بالمواد المنجمية، و لذا يحرس مهندسو الموقع على متابعة عمليات الحفر و الضغط و وضع طبقات الأساس بكل دقة و عناية حتى لا تحدث مشاكل تقنية في المستقبل كالهبوط و الانجراف و تشوه المسار، مؤكدين بأنه كلما كانت الظروف المناخية ملائمة كلما كان العمل على مدار الساعة تقريبا، لكن عندما تسقط الأمطار يتراجع العمل حفاظا على جودة الأشغال، لأنه لا يمكن الحفر و الضغط و وضع الطبقات عندما تكون الأرضية مشبعة بالمياه، معتبرين بأن الأرضية الجافة مثالية للمهندسين عندما يتعلق الأمر بأشغال الحفر و الضغط و التسوية. مشروع لتكوين المهندسين الجدد وتوظيف العمالة المحلية تسعى الشركات العاملة بمشروع الخط المنجمي لتوظيف مهندسين جدد في مختلف التخصصات لتدريبهم على العمل الميداني و تطوير القدرات و المعارف النظرية التي اكتسبوها خلال المسار الدراسي. يقول سمير بن جدو بأن تخصصات كثيرة متاحة للمهندسين الشباب كالجيولوجيا و ميكانيك التربة، و المناجم و الأشغال العمومية و الهندسة المدنية و البناء و الطبوغرافيا و غيرها من التخصصات التي يتطلبها المشروع الذي يعد فرصة ثمينة لتكوين المزيد من الكفاءات الجزائرية القادرة على تحمل المسؤولية في المستقبل. و حسب مدير مشروع الخط المنجمي بقالمة عقون عادل فإن قدرات التوظيف سترتفع تدريجيا كلما تقدم المشروع لتصل إلى 1800 منصب عمل متاحة للعمالة المحلية تطبيقا لتعليمات السلطات الولائية التي تسعى إلى تحقيق مكاسب اجتماعية من مشروع الخط المنجمي. العمل ليلا تحت الأضواء الكاشفة..المهمة الصعبة عندما وصلنا إلى موقع بناء النفق كان الظلام قد اكتسح المنطقة، و بدأت المصابيح القوية في الاشتغال مبددة سواد الليل، و بدأ معها هدير المولدات و الجرافات و معدات تحطيم الصخور و ضخ الاسمنت و رفع كتل الطين. العمل هنا بفريقين كل فريق يعمل 10 ساعات عندما تكون الظروف المناخية ملائمة، و يسعى مدير المشروع إلى نظام الثلاثة فرق على مدار الساعة لكسب المزيد الوقت و التقيد بالآجال المحددة. كل الفرق كانت تعمل في تلك الليلة، فريق العتاد و فريق الخرسانة و فريق الحفر في الأرضية الطينية و الصخرية الصلبة التي تعد من أولى التحديات التي تواجه المهندسين، في انتظار ما تكشف عنه الحفريات عندما تغوص المعدات الخاصة تحت سطع الأرض لبناء أول نفق على المقطع المنجمي الرابط بين قالمة و عنابة. و تحرز عمليات بناء و تأمين مدخل و مخرج النفق تقدما مشجعا رغم الظروف المناخية الصعبة حيث تشبعت الطبقات الأرضية بمياه الأمطار، لكن آليات الحفر و ضخ الاسمنت المسلح لا تتوقف. قواعد الحياة و الإمداد والقيادة..القلب النابض للمشروع العملاق ليس من السهل العمل ليلا و دون انقطاع بمنطقة جبلية نائية لولا قواعد الحياة و مراكز الإمداد و القيادة التي أقيمت قرب قرية بوكموزة، عروس سيبوس التي استفاقت من سباتها الطويل و صارت اليوم مقصدا للعمالة و معقلا لكبرى شركات البناء و الطرقات و السكك الحديدية بالجزائر. قواعد كأنها قرية صغيرة تحت سفح الجبل الذي يمر من تحته نفق لقطارات المستقبل، أضواء كاشفة، شقق للنوم و مطاعم و سيارات إسعاف و مركز قيادة يعمل دون انقطاع و حراسة مشددة و حظيرة عتاد و مراكز للخرسانة، و عيون ساهرة على الحسابات الدقيقة على المخططات و برامج الحاسوب حيث يجلس سمير و يعقوب و عبد المالك لمتابعة برنامج تلك الليلة من ليالي الشتاء الطويلة التي تؤرخ لأحد أكبر المشاريع الاقتصادية العملاقة بالجزائر التي تتجه بخطى ثابتة نحو نمط اقتصادي مستديم يحررها من تقلبات أسواق الطاقة.