غاب عمر بوشموخة فجأة. اختفى بلا مقدمات عدا مزحة من القلب حسبها محبوه نكتة من نكاته البليغة. سقط قبل الستين كشجرة عريقة محدثا صدمة في الوسط الأدبي. صدمة بين أطفاله من جيل كامل خدمه ورعاه. هو الذي فتح الأبواب للأجيال الجديدة في ملاحق النصر، فكان ينشر للمبتدئين ويحاورهم في وقت لم يكن النشر متاحا في الجزائر.اختفى عمر دون أن يشكره أحد على صنيعه. طار من بونة إلى الميلية لينام إلى الأبد في ظل زيتونة «تشربه على مهل» . كراس الثقافة الذي ساهم فيه الراحل ببعض كتاباته دعا بعض من عرفوه للحديث عنه ومعه في هذا العدد. رشيد فيلالي في رثاء الأديب عمر بوشموخة العصفور الأخضر يعود إلى عشه السماوي! في أواخر الثمانينيات.. تعرفت لأول مرة على اسم الأديب العزيز عمر بوشموخة ..كان ذلك ضمن ملف حول الدفاع عن اللغة العربية أعدته صحيفة المساء وشارك في تحريره كاتب السطور وعمر بوشموخة ومحمد بوزداية.. حيث نشر هذا الملف في الصفحة الأخيرة من الصحيفة المذكورة .. وكان شهادة لله الصحفي محمد بوزداية أكثرنا تعقلا ورزانة وحكمة.. وأذكر أنه قال في معرض حديثه المقتضب، أن ثقافة الرد والرد على الرد صارت موضة يركب أمواجها الجميع.. وكنت من جهتي في مقالي على عكس الاثنين تماما أبعد رعونة و نزقا و اندفاعا.. وهي طبعا من تأثيرات قلة التجربة و حداثة السن و طيش المبتدئين..أما عمر –رحمة الله عليه – فقد كان كعادته هادئا دمثا.. ينتقي كلماته بروية و ذكاء شديدين..وقد شدني أيضا في مقاله أسلوبه السلس والتلقائي البعيد عن التنميق والتهويل والنمطية الفجة المعتادة في مثل هذا النوع من الكتابات السجالية..و مضت الأيام.. وكان عمر قد تحول للعمل في جريدة النهار التي كانت تصدر عن مؤسسة النصر .. حيث كلف بالإشراف على إعداد الملف الإبداعي الأسبوعي ومتابعة كتابات الشباب الذي بات يتطلع بشغف كبير للنشر في هذا الملحق الأدبي، بعدما تمكن الأخير من أن يستقطب وفي ظرف قياسي، عددا معتبرا من الأقلام الموهوبة في القصة والشعر و الخواطر والنصوص الأدبية العصية عن التعريف و التصنيف..وها هي هذه الأقلام تؤثث الآن المشهد الأدبي(والإعلامي) بكل زخمه وعنفوان تجاربه ليس في الجزائر فحسب بل حتى في عالمنا العربي و العالمي أيضا! وقد لا يتسع فضاء الكراس الثقافي لكي نسرد كافة الأسماء التي كان المرحوم عمر يشرف على نشر نصوصها بروح حميمية فذة و بعيدا كل البعد عن النزعة الأستاذية المتعالية وادعاء العظمة، مثلما كان بعض المشرفين على الملاحق الإبداعية في جرائد أخرى ضحايا لها إلى درجة الشيزوفرينيا..هذا هو عمر بوشموخة الذي عرفته لعدة سنوات.. راهب المحبة المولوع بالبهاء ..الفتى الطالع من جبال جيجل وبساتينها الملكية ذات البذخ الرومانسي الذي لن تجد له نظيرا في عموم الوطن..عمر فارس الريشة والذائقة الجليلة .. عاشق جبران خليل جبران وفيروز وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وكل ما هو نبيل الإحساس و أليف للأرواح الهاربة إلى ملكوت الأنوار والأسرار الخالدة..عمر عازف العود بأنامله السمراء الذي يلوذ إلى نفسه ليلا في شقته بمدينة عنابة هاربا من هول عالم ظلامي حقير وفاسد حد الغثيان.. هناك حيث يداعب أشواقه و فراشاته الذهبية متناغما مع ذاته ..كل ذلك لعله يقتطف بعض السكينة والاطمئنان النفسي في انتظار صباح جديد.. تتجدد معه المعاناة المريرة وتتسع فيه الجراح أكثر.. فأكثر..فيما الآلام تكبت في صمت الأبطال الذين يتعففون من الشكوى.. وأجزم دون مبالغة أن كل من عرف واحتك بعمر اندهش من طيبة شخصيته و كرمه العظيم و تطوعه التلقائي لمد يد المساعدة إلى كل من يحتاج إلى ذلك ..كما تميز الراحل طيب الله ثراه بحنان إنساني غريب يشع من شخصيته وكأنه قديس جاء إلى دنيانا ضيفا عابرا ليترك لنا سيرته العطرة نستهدي بها في خضم هذا الوجود البائس..رحمة الله الواسعة عليك ياعمر ..أنت العائد إلى عشك السماوي.. عصفورا أخضر و إلى أن نلتقي سامحنا إن قصرنا يوما في حقك ..وداعا. سلوى لميس مسعي انطفاء كوكب ملأتني أحاسيس مختلفةحين بلغني نبأ وفاة عمر وأول ما فعلته هو إخبار أمي لأنها على علاقة دائمة بأخبار أصدقائي منذ انخرطت في نادي الابداع الادبي والفني بعنابة، واودعتني في تسعينيات القرن المنصرم بين يدي عبد الناصر خلاف وكان عمر بوشموخة الصحفي الوحيد الذي يعنى بكتاباتنا وهو أول من نشر لي على صفحات جريدة النهار وكان يواكب كل نشاطات النادي التي شملت ضمت كل كتاب الجزائر ابان تلك المرحلة ..وكان عمر «عمدة» جلساتنا ..يصير طفلا بيننا ينكت ويضحك ويسخر دون أن يجرح احدا ،كان عمر يسفرنا إلى العوالم المشرقية من خلال حكاياته عن كتاب المهجر كان عاشقا لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب يحفظ اغانيهما عن ظهر قلب بل ويعرف حتى حيثيات كل قصيد بدء من كاتبها إلى ملحنها الى مغنيها كما يحتفظ في ذاكرته بقصائد عباقرة الشعر العربي لطالما علمنا أشياء كثيرة لطالما سخر من الرداءة التي تطغى على المشهدين الثقافي والاعلامي ،لا يمكن ان نجلس في مقهى او مطعم دون ان يسدد عمر الفاتورة ، لا يمكن ان تمر مناسبة دون أن يكون أول الحاضرين لقد شهدت عنابة حضوره المتميز ولم يكف منذ عرفته عن التفاعل مع مختلف الاجيال ..كان مشجعا لا يضاهى نصوحا طيبا فنانا وذواقا ..سافرت مع عمر الى العاصمة وولايات أخرى عدة مرات ولا يكف عن التنكيت وتلطيف الاجواء وتحميلها نفسا رومنسيا خاصا ..اكثر ما تحمل مكتبتي بين رفوفها من كتب وأشرطة وصور لفنانين مهداة من طرفه ..لم يتوان يوما في تشجيعي ولما عملت في الصحافة هو من وجهني الى الاقسام الثقافية ..دافع عني في غيابي لما خضت معارك مع اشخاص اختلفت معهم ..احس الان بعمق غيابه واقسم ان كوكبا مضيئا قد انطفأ..وأن نجمة سقطت من السماء لتحفر في قلوب من عرفوه وصادقوه ذاكرة نواقيسها تدق بغيابه..لن يكف قلبي عن الاحساس به..بحزنه ،بعزلته،س يظل يترائى لي في مكتبة الكور وفي ساحة الثورة وفي بهو قصر الثقافة وعند كل زاوية توقفنا بها لحظة وبين شوارع عنابة عابرا مثل ملاك يودع الأمكنة والأشياء والوجوه وهو يدندن بصوته الشجي أغنية لأم كلثوم دون أن يخبرنا أن قلبه الرومنسي العاشق سيتوقف يوما ...وفجأة عن الحياة . عن رحيل آخر الرومانسيين كانت أشعة شمس 28 ديسمبر2013 ، على الساعة16.05تنفذ سابحة بين أوراق وأغصان وأشجار الزيتون لتشكل ألوانا مدهشة كانت شمس شتوية لكنها اقرب إلى شمس خريفية كانت سموفونية ما.. تعزف للقادم من مدينة منحها اسمه إبداعاته، كتاباته ، عذاباته،أسراره .. القادم كان مسجى في صندوق خشبي بلون بني .. كانت السمفونية تعزف بقوة تتمازج معها تغاريد العصافير ، ضربات الفؤوس ، وتراب طري يوضع على الجسد الزكي الذي تعطره رائحة أوراق الضرو .. حملت الكاميرا و قررت ان أوثق لحظة الدفن ..لا اعرف لماذا فعلت ؟ كانت نظرات المشيعيين ترمقني متسائلة : ما الذي يفعل هذا الغريب في هذا الموقف التراجيدي ..؟ دست على جمرة القلب و صورت المشهد لحظة ..لحظة .. صرخت في داخلي : ألا تعرفون من يدفن الآن ؟ إنه : عمر بوشموخة ؟ - أليس الأستاذ عمر بوشموخة قامة وقمة أدبية جزائرية كبيرة هيمنت بحضورها على المشهد الأدبي الجزائري منذ السبعينات إلى هذه السنوات وخاصة في مدينة عنابة ؟ - أليس عمر بوشموخة قامة في الصحافة الثقافية بدأها من جريدة النصر وأنهاها متقاعدا في إذاعة عنابة الجهوية ؟ فلم غابت الأصوات الأدبية و الفنية والإعلامية عن هذا الوداع الأخير ؟ أين أنتم أيها الأصدقاء؟؟ أين أنتم أيها الأدباء؟؟؟ أين أنتم أيها الصحفيون ؟؟ أين أنتم أيها الأحبة ؟؟ كنت أتساءل بطعم مرارة الدفلى و أنا أحدق في جثمان عمر و هو يعود الى أمه الأرض و أحدق في تلك الجموع الحزينة: هل قدر هذا الزائر هو هذا المكان الطبيعي و التاريخي الذي لا يحمل منه غير تاريخ ومكان مولده فقط في وثيقة حملها معه لمدة ستين سنة.. فالمدينة التي منحها ميلاده الحقيقي لم تكن سوى عنابة .. كل مرة يتساءل حين نتحدث عن هذا الانتماء للأمكنة : كيف تستطيع يا عبد الناصر أن تتصالح مع الأمكنة ، تتصارع فيك عنابةوجيجل .. و في الأخير تمتلك الجرأة و تجد الخلاص في الاستقرار النهائي حيث لم استطع العودة ..هناك في جيجل ؟؟ تعود علاقتي بعمر إلى سنة 1985 حين راسلته أول مرة معجبا بكتاباته النثرية و الشعرية ، وكان يقيم في مدينة الحجار " القحموسية " في نفس الحي الذي يقيم به الأديب جمال فوغالي ، حي عطوي .. والتقيته بصفة شخصية في بداية 87 وكنت قد رسمت له في داخلي تلك الصورة النمطية للكاتب الكبير و الأستاذ الصحفي. وكان اللقاء في مكتبة الفنيكس حاليا " مكتبة ساحة الثورة" التي يشرف عليها صديقنا الشريف .. فاجأني الأستاذ عمر بوشموخة بتواضعه الجم .. فزالت تلك الصورة المكرسة و تحولت العلاقة بيننا إلى صداقة امتدت سنوات وسنوات.. كانت نصيحة عمر لي حين سألته كيف يمكنني أن أكون كاتبا مثلك قال: إنني في بداية الطريق فقط : اقرأ ..اقرأ.. وحافظ على الطفل الذي في داخلك ودائما كان يقول لزملائي واصدقائي ان عبد الناصر يكبر نحو الطفولة و حين اشتد عودي نصحني نصيحة ثمينة جدا عملت عليها إلى هذه اللحظة : كل مقال تكتبه ..كل قصة تكتبها ..كل قصيدة تكتبها اعتبرها مشروع كتاب .. وعرفت مصادر عمر الثقافية و هي المدرسة الرومانسية و أدباء المهجر.... كان مغرما بجبران خليل جبران ،ميخائيل نعيمة ، عاشق للموسيقى الشرقية خاصة : أم كلثوم وكان يقول لنا حينا ضاحكا : الليلة سأتكلثم ‘ يقصد أنه سيقضيها مستمعا إلى أم كلثوم " كان عاشقا لمحمد عبدالوهاب .. كانا حافظا للشعر الجاهلي ذاكرته تحفظ اكثر من 10 آلاف بتت شعر عربي .. و للقرآن الكريم .. كان مرجعنا اللغوي لانتفقه في اللغة و عمر بوشموخة حاضرا .. امتدت رحلتنا مع عمر بوشموخة كجيل أدبي جديد خاصة مع تأسيسنا لنادي الإبداع الأدبي بقصر الثقافة والفنون عنابة ، حيث قدم كثيرا من الأصوات الأدبية سواء في جريدة النهار او العناب او المجاهد الأسبوعي وكان رفيقنا الدائم حيث تابع ايضا كاعلامي متخصص كل منجزات هذا النادي من خلال مهرجانته او أمسياته الأدبية .. وكلما نحاول إغواءه لينتمي الى هذا النادي ..كان يرفض بشدة ويقول علي كي أكون موضوعيا ألا انتمي إلى أي تجمع ثقافي او أدبي إلا بعد ان آخذ تقاعدي .. وفعلا ظل لامنتميا .. كان لا منتميا بمفمهوم كولن ولسن ..كان عاشقا لقيم الحق الخير والجمال ..ونقطة ضعف عمر هو الجمال في كل تجلياته.. وذات يوم حين كنت مستشار المدير العام للمكتبة الوطنية قلت لعمر ما رأيك في طبع كتابا لك..ضحك قال لي : كيف؟؟ قلت له انك متخصص في الموسيقى العربية ولك الكثير من المقالات في هذا المجال ...لم لا تجمعها في كتاب واحد ألم تقل لي إن كل مقال هو مشروع كتاب ..وفعلا دفعته للعمل و حمل لي كتابه " جماليات الموسيقى العربية « ووضعته في إطار مشاريع الجزائر عاصمة الثقافة العربية وتمت اجازته ونشره ..وكان جد سعيدا به.. وأقنعته أن يكتب لي مقدمة لكتابي عن صديقنا الشاعر عبدالله شاكري ..كانت المقدمة شاملة ورائعة .. منحني عمر الكثير من الوثائق بخط يده و بعض الصور فهو يعرف مدى حرصي على توثيق الحركة الأدبية الجزائرية ..وكان يقول لي هذا قليل من كتابي السري .. حتى وان لم نعد نلتقي كما كنا من قبل إلا أن في داخلي ظلت ثمة مساحة شاسعة من الاحترام و التقدير و الود لهذا الاستاذ الكبير .....آخر الرومانسيين.... عمر أستاذ كبير ولد في الميلية دفن في الميلية وبين الولادة والدفن كانت عنابة موطنه الأصلي .. لكنه كما قال لي صديقي جمال بوملطة دفن في غير بيئته قبل سنوات أخبرني انه قريبا سينتهي من كتابة رواية : عنوانها : اشموخن .. تذكار لمدينه.. قلت له جميل جدا ان ترتاح هنا في مقبرة العلام في مكان جميل في قمة ربوة لن تنسى لأنها تضمك الان.. تحرصك ظلال زيتونتين.....اشموخن رواية أنت عنوانها............. ابنك : عبدالناصر خلاف هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته أمين كوخي عن عمر بوشموخة في مأواه،، مات عمر؟ كم كان سنه؟ يا له من سؤال فارغ المحتوى. من عساه كان يستطيع طرح السؤال على عمر؟من جماعتنا نحن، لا أحد! كنا نعرفه، وكانت معرفتنا مستقاة من حدس فني.لقد كانت الحياة مع عمر ترتبط بالإبداع..بالفن. كان ينبغي الارتباط بحالة إبداعية و أنت معه، كأن تستحضر بيتا شعريا لأحمد زكي أبي شادي:»وكل معنى يرف لديك في الفن حي»، أو ترتقي مع أم كلثوم «الأطلال». لذلك-أظن-كان السؤال عن سن عمر، إحالة إلى شيء جاف، بارد، لا يتحول، لا يلاطف، غير ناعم، تعس، لا يتدلل، يبعد عن الحب..شاق على الأنثى.الصدق أقول حول هذا السؤال، كان عمر لا يحب أن يبتعد عن المرأة..عن الحياة. وهو على أية حال كان يمج الأسئلة، و كان يقهقه إذا بادرته بالسؤال، يجيبك على طريقته حين لا يحب الرد.وحينما كنت تجترئ و تدلف إلى «هيكله» و تحدس ما كان يمكن أن يكون إجابة عنده يعلق:»أبابا..أنت خطير!». إذن ما هذا الحرج؟صحبته صعبة؟لا..لا..هذا جوابي أنا. عمر كان يميز في كل ساعات نهاره بين الغث و السمين، كان يستنكف ما لا يتعالى عن الواقع، ما هو سخيف. لقد كان يريد أن يكون دائما مثل عريس:ا مرأة جميلة يحبها و تكون حاضرة بأبهى حلة، أغنية طليقة من ألبوم قاهرة ما قبل الثمانينات، انفصال دائم عن متطلبات الدنيا.هو لهذا السبب كان يحب أن يصنف أصدقائه، أي الذين «يعانون فلسفيا»..و كان يسعد بملاطفتهم. داخل هذا المدار كانت علاقتنا بعمر تتراوح.. نسعد برضاه و باسترضاه. فانظر إلينا حين كنا نعبر رواقه الأثير:ساحة الثورة.كنا معه، وكان معنا لغيرنا. كأنه كان يسعى –دائما-إلى تثبيت ملامح «سبعينية» سمتها النظارة و الألق و الجمال. كان حالما، و كان يكره ألا يكون ما كان، أي ما استجد مع جزائر التسعينات. لقد أخذت الحياة عنده شكلها النموذج، و لم يكن يريد تغيير أي ضلع من ضلوعها.لقد اكتملت مع ما تقرر مع جيل النهضة العربية-المصرية:جبران، نعيمة، العقاد، شوقي، عبد الوهاب، أم كلثوم، الأطرش، و بعضهم ممن يرتبطون بهم وفقط.كنت من ناحيتي أنا أحب مشاكسته، عندما أسمعه ما يريد و ما لا يريد، يتحير بين الإعجاب و الاستهجان فيخاطبني:»كيف لهذا العقل أن يجمع بين هذا و ذاك». واتفق الجميع:عمر غريب الأطوار! أما عني فقد اعتبرته رجلا يدافع عن منظومة قيم الرجل القومي المثقف. هل كان عمر اشتراكيا؟الجواب:لا هل كان ليبراليا:أعتقد هذا و لم يكن يقترب من السياسة، هدفه لم يكن مرتبطا بحصة. و عن فلسفته، أعتقد أنه كان ينتمي إلى فلسفة «اللامنتمي» في معناها الواسع، أي عدم الانضواء ضمن أي إطار مؤسساتي، كان مذهبه قريبا من «الأبيقورية».فشعاره في الدنيا الابتعاد عن تجشم أي تعب إلا للضرورة و بأقل جهد.كان عيشه مناورة مستمرة لعدم التقيد و التفرغ لما يراه ذا جدوى:الفن و الإبداع.لقد حسم خياراته بتصميم لا يماري.وقصصه الأثيرة عندي تكشف عن فلسفته. و كانت «قطرة ندى» في جريدة «المساء»، و كان إشرافه على صفحة الإبداع في جريدة «النهار»، و كانت مقالاته الأسبوعية في جريدة «المجاهد الأسبوعي».لقد كان عمر دائم الكتابة.و لكن هناك شيء بارز في حياته كصحفي، هو حضوره اللافت للانتباه في الملتقيات الأدبية، كان صورته وهو جالس بجانب من يريد و يتهامس، صورة تظل ماثلة في الذهن.أو زهوه بالعود. عمر المبدع..عمر الصحفي..عمر الصديق.كان هذا خياره الذي يبهجه كثيرا، و كان «نادي الإبداع الأدبي» هو فضاءه المفضل، كان يحب المبدعين أي حب، و لو أنه كان يتهرب من الغوص كثيرا فيما هم فيه.كانوا أسرته، وكانوا يعاملونه كرفيق الدراسة. إليكم ما يلي.عمر في فصول الخريف و الشتاء و الربيع:جنتلمان، بدلة و ربطة عنق.عمر في فصل الصيف:سروال جينز، شعر «كريبي»، و يبتعد عن أشعة الشمس سريعا.هكذا كان يريد أن يشكل أيامه على حسب مذاقه، و بعيدا عن الازدحام، وكان يزدري الأوقات المعينة، و يتغاضى بتطرف عما يحيل بينه و بين غوايته.و في الأخير صار عمر أستاذا. ثم تكون جملته الأخيرة:»أشكر كل الذين وقفوا إلى جانبي ، و ساندوني في محنتي الصحية التي ألمت بي مؤخرا و أقول للجميع أن العملية الجراحية التي أجريت على قلبي كللت بالنجاح و أنا الآن أتماثل للشفاء .» و علقت أنا: الحمد لله على سلامتك أستاذنا الفاضل... و لكن قلبه كان صغيرا..و ضعيفا.لم يحتمل فجيعة «البيستوري». و كان الخبر:مات عمر.و كنا نظن أنه دائما سيكون معنا رغم عدم اللقاء. مات عمر المثقف و المبدع الذي كان يصنع الاستثناء في عنابة. آه يا عمر.. لم تلتفت حين الموت قدرت راحتك و مضيت بالسهو أو بالهمس تغادرنا الزمن كان كفيلا بك، و أنت الذي تماديت في اقتدارك كنت علامة تشهد على عدم الضحالة عشت فردانيتك، همومك، لوعتك، مسارك في اقتناع بالجدوى و رغم كل شيء كنت تحترم أس وجود الإنسان:الإبداع أنت الذي مهما ابتعدت عن الآخرين، كنت تحتضنهم بحب القديس فعلا كنت نموذجا في ذوقك و فنك لقد كانت أياما ملأها البهجة حينما كنا نلتقي معا كنت تشجعني و تحضنى على العطاء فعلا سوف تفتقدك عنابة التي احتضنتك و احتضنتها وداعا أيها المتفرد و اعتقد أنك رحلت و كل زاد الرحلة معك:فنك و محبة الناس لك. مقولات عمر أساس نظرية الحرية في الصحافة تقوم هذه النظرية على أساس أن تكون الصحافة قاعدة كبيرة من الحرية كي تساعد الناس في بحثهم عن الحقيقة، و من أجل بلوغ ذلك ، يجب أن تتاح للفرد حرية الوصول إلى المعلومات و الأفكار، بحيث يكون قادرا على أن يميز فيما تقدمه له الصحافة، بين ما هو حقيقي ، و ما هو زائف باستخدام عقله، فهو قد يجد بعض الصدق مختفيا وراء الكذب ، كما قد يجد بعض الزيف مختفيا وراء الحقيقة، و لكن على المدى الطويل ستظهر الحقيقة من خلال التفاعل الحر بين المعلومات و الأفكار إذا كان الانسان صادقا مع عقله. عن الكتابة الصحفية الكتابة الصحفية، والممارسة الإعلامية، تستوجب من صاحبها أن يكون على دراية بالناحية القانونية، بحيث إنه على الصحافي، أن يعرف حقه القانوني في التعبير وإبداء الرأي، وأن يعرف بالموازاة مع ذلك حدود الحرية التي ينشدها ويناضل من أجل ترقيتها، بإعتبارها مكسباً إنسانياً ينتزع انتزاعاً. وإيماناً مني بالحاجة الماسة للثقافة القانونية عند كل ممارس لمهنة الصحافة، يعرف متى تبدأ حريته، ومتى تنتهي حدوده وهو يمارس مهنته الصحفية، ما بين حقوقه وواجباته، انطلاقاً من الرسالة - الأمانة التي يحملها على عاتقه، لأن المهنة الصحفية، إذا لم يتسلح صاحبها بما يجب من المعرفة القانونية المتصلة بنشاطه الصحفي اليومي، سوف تكون حالته قريبة من السفينة التي تفتقد إلى الربان الذي يتحكم في قيادتها، في بحر هائج متلاطم الأمواج. عن النقد الأدبي لا شكّ أن من يتأمل الواقع النقدي في الساحة الأدبية و الثقافية العربية، سوف تصدمه تلك الكتابات التي تتدثر بالنقد، إذ تتجاهل وجود أسماء أدبية لها أهميتها، لمجرّد أن « الردّة النقدية» لا يهمها من ذلك سوى التزلف و التملق لأسماء بعينها، لكونها في واجهة الإبداع الذي يفرضه الواقع الثقافي أو السياسي..... حيث يقفز الناقد على النص الأدبي كقيمة معرفية و جمالية، لينصبّ دوره على تلميع اسم صاحب النص، على النحو الذي يستحيل بموجبه أدباء الواجهة، إلى أصنام تستحق العبادة، بفضل الردّة التي يعرفها واقع الحركة النقدية العربية...... ففي بلد مثل الجزائر، لا يجد القارئ و المثقف مبرّرا لتغييب أسماء أدبية كبيرة، قدمت الكثير من عرقها الفني و الأدبي على مدى سنوات و عقود، دون أن يلتفت إليها أحد من ماسحي الأحذية في الساحة الأدبية. أن تكون كاتبا... في الجزائر هو من دون سكان الارض ، يعاني، الحقرة ، و يتجرع التهميش ، ومن أشكال التمييز العنصري، ليس من لدن الجالسين على عرش التسلط الاداري و السياسي فحسب ، و لكن أيضا من لدن المحيطين به. ممن يمارسون عليه التسلط و الاقصاء و الالغاء و ألوان الجهل و الجهالة ، و ربما يتساوى في ذلك حامل القلم القريب من اولياء النعمة الذي يحظى بأخذ نصيبه من " الريع " المتساقط من على موائد البوابات العالية . و حامل القلم الذي ما يزال لم يمتد بعد الى مصدر يقتات منه او يجد له لقمة يسد بها رمقه كأي كائن حي على تربة هذا الوطن...