زلابية "عمي رابح" لازالت صامدة في قسنطينة العتيقة يستقطب دكانه الصغير بقلب رحبة الصوف مئات عشاق الزلابية الأصيلة يوميا، من سكان المدينة العتيقة ومختلف الأحياء والمدن المجاورة، ليس في رمضان فقط، بل في كافة أشهر السنة... فهو أحد أقدم وأشهر "الزلابجية" بقسنطينة، المحافظين على حرفة الأجداد منذ عشريات طويلة ويفتخر بعرض القطع الذهبية الشهية بالحجم الكبير. عمي رابح زعير، يؤكد بأنه صامد، يتحدى كل أنواع المنافسة، امتثالا لوصية والده، ولأنه يحب فعلا هذه "الصنعة" المفعمة بالفأل الحسن وحلاوة وفاء عشاقها قصة حب عمرها 55 عاما"بدأ والدي رحمه الله يعلمني أسرار تحضير الزلابية وأنا في ال 12 من عمري ثم اصبحت أساعده في محله الصغير بحي السويقة الشعبي الى أن أتقنت صنعها وبلغت مرحلة الاحتراف بشهادة "المعلمين" مما يعني أن علاقتي بهذه الحلوى التقليدية الأصيلة عمرها يتجاوز ال 55 عاما، وباذن الله سأواصل ممارستها الى آخر العمر" قال عمي رابح وعن سر شهرته المستمرة، والتهافت الدائم على زلابيته الذهبية بالرغم من كثرة المنافسين عبر أحياء المدينة وضواحيها أوضح "المعلم": "أعتقد أن السر الوحيد يكمن في تحضيري لزلابية "طبيعية" أصيلة، استنادا لوصفة لم تتغير عبر الأجيال في عائلتي لقد ورثها أبي وعمي عن جدي وورثها جدي عمن سبقوه وهكذا ... المكونات أو المواد الأولية معروفة، لكن كل المهارة والاتقان يبرزان في كيفية تحضير الخميرة التقليدية دون الاعتماد على الخميرة التي تباع جاهزة لطهي الخبز..". وأضاف وهو يواصل قلي القطع الذهبية غير مبال بدرجة جرارة تتجاز الخمسين داخل المحل والأربعين تقريبا خارجه في وسط نهار رمضاني ملتهب: "لم يحدث وأن أضفت الى الزلابية التي أحضرها بنفسي ملونات أو نكهات أو معطرات أو اية مادة محسنة لشكلها ... انها مزيج من السميد والماء والخميرة التقليدية، أقليها في الزيت ثم أغطسها في العسيلة أو "الشاربات" التي أحضرها بنفسي خصيصا لاضفاء اللون الذهبي اللامع عليها". واشار الى أن غلاء العسل الطبيعي حال دون الاعتماد عليه في تحضير هذه الحلوى، عكس ما كان يفعله قبل عشريات طويلة عندما كانت كل المواد الطبيعية في متناول اليد ولا ترهق الجيب. ويرى بأن اضفاء الفانيليا أو عصير الليمون أو الزعفران أو البيض أو ماء الزهر وبعض المكسرات على الزلابية التقليدية لاغراء وجذب الزبائن، يشوهها ويفسد مذاقها الطبيعي الصافي التقليدي، ومن يفعل ذلك يصنفه في خانة الدخلاء على "الصنعة" من التجار الموسميين الساعين لتحقيق الربح السريع على حساب الأصالة، وجزء لا يتجزأ م العادات والتقاليد. على حد قوله ... منددا بالخلط بين الزلابية والمقرقشات والمقروظ، وحلويات أخرى.تعليم الجيل الجديد يتأسف "عمي رابح" لأن كافة أفراد عائلته يجيدون صنع الزلابية التقليدية أبا عن جد، لكنهم ابتعدوا عنها، وحتى زملاءه القدامى أبعدهم عنها المرض أو الموت... مما جعله يخشى على الصنعة من التشوه والاندثار.. ومن هذا المنطلق حاول أن يجذب أبناءه إليها، لكنهم - كما قال ضاحكا - نفروا منها، خوفا من تلطيخ ثيابهم الأنيقة ببقع الزيت والعسل!... وتفرغوا لدراستهم أو وظائفهم الادارية. ويفتخر لأن صليح وابنه محمد الأمين "23 عاما" تعلما جيدا منه "الصنعة" وبامكانهما أن يحملا المشعل... اما إبنه طارق "25 عاما" فاعترف بأنه لم يتقن بعد تحضير الزلابية وفق وصفة عمي رابح، لهذا يكتفي بمساعدة الثلاثي خلال شهر رمضان عندما يشتد الاقبال عليها... وتبدأ الطوابير تتشكل أمام الدكان الصغير منذ العاشرة صباحا إلى غاية الرابعة بعد الظهر... وسألنا "عمي رابح" اذا كان يوافق على ممارسة حرفته في محل أكبر بحي أخر، بعيدا عن رحبة الصوف فرد بانفعال: "لن أغادر هذا الحي الشعبي المليء بعبق الأصالة والتراث الذي كان قبل سنوات يعج بالنشاطات التجارية التقليدية.. لا أريده أن يفقد سحره القديم، لكن لو تمكنت من الحصول على محل أكبر هنا، لكنت في غاية السعادة.. عندئذ لن أكتفي بصنع الزلابية وحدها.. سأحضر وأبيع "المقروظ" و"المقرقشات" والفطائر وأصابع العروس والكثير من الحلويات التقليدية الأخرى التي أجيد تحضيرها بفضل ما تعلمته من أبي". صمت برهة من فرط التأثر ثم استطرد قائلا: "أبي كان من أمهر وأشهر صناع الزلابية بحي السويقة، وقد أوصاني قبل أن توافيه المنية بالمحافظة على حرفته فنفذت وصيته.. ولا أخفي عليكم بأنني أحببتها وتعلقت بها كثيرا... يكفيني فخرا أن أسمع الزبائن يبدون اعجابهم بزلابية عمي رابح ويحضرون من كل حدب وصوب لاقتنائها". وأكد لنا بأن العديد من الأواني التي يستخدمها في حرفته عمرها أكثر من نصف قرن، ومن الصعب تعويضها مثل الطاجين الضخم... وأشار إلى "المحقن" القمع الذي يصنع فيه العجين، ثم يضفي عليه الشكل المطلوب قائلا: هذا هو الأداة الأساسية.." ولم يبدو عليه أي انزعاج من الحرارة المنبعثة من "الطابونة" والطاجين شبه المملوء بالزيت المغلي لقلي الأشكال الذهبية الشهية.. وأوضح بهذا الشأن: "تدربت أكثر على تحمل الحرارة الشديدة في المطاعم الفرنسية.. لقد عملت في منطقة "الكوت دازور" خلال السبعينات كطباخ، لكن بعد حوالي 5 سنوات، قررت العودة إلى أحضان الزلابية والتفرغ تماما للصنعة... حاملا شعار العفاف والكفاف.. فالزلابجي الذي يتلزم بأصول حرفته التقليدية لا يحقق منها أرباحا... بدليل أنني لا أملك هذا الدكان بل أجرته من البلدية".وأوعز رفع سعر الكيلوغرام الواحد من منتوجه الحلو من 140 الى 160 دج منذ شهور الى ارتفاع اسعار المواد الأولية، وليس بدافع الرغبة في تحقق هامش ربح كبير..زبائن لا يقاومون شكلها وسحرهامن بين زبائن عمي رابح الأوفياء سيدة شابة تقيم بعنابة تربط دوما زيارة والدتها التي تسكن بحي سيساوي في رمضان بزيارة رحبة الصوف "لتشم" رائحة المدينة العتيقة والعميقة وعاداتها وتقاليدها وذكرياتها.. ومن بينها زلابية عمي رابح التي تتحدى كل منافسة في الجودة والنوعية حسبها.. وظهرت علامات الراحة والغبطة على ملامحها الشقراء عندما سلمها مساعد عمي رابح كيس "الذهب" فالملاحظ أن هذا الحرفي وحده بقسنطينة، لا يزال يحضر الزلابية ذات الحجم الكبير وبالمقابل يعرض الصغيرة الأكثر تداولا ... ولا يتردد في تلبية رغبات زبائنه مهما كانت غريبة في ما يتعلق باشكال وأحجام القطع الذهبية التي تتحدى كل منافسة محتملة، على حد وصف الشيخ معمر حباطي، الذي التقينا به في طابور صباحي.. حيث اكد لنا بأنه وطيلة عشريات طويلة لم يكف عن شراء زلابية عمي رابح يوميا، وأضاف ضاحكا: "منذ ولدت وأنا ساكن وسط الطاجين" وشرح زبون وفي آخر هو عمر سوكي : "الزلابية بقسنطينة، لا ترتبط برمضان فقط، انها تبعث على التفاؤل والفرح كل يوم... وحضورها قوي في الأعراس التقليدية القديمة وحفلات الختان واختتام القرآن الكريم والخطوبة والاحتفال بالمواليد الجدد، ويهرع كل من يشتري حلية أو سيارة أو أي شيء جديد لشرائها على سبيل التبرك واعلان الفرح.." ويأتي يوميا الكهل جمال من حي سيدي مبروك لاقتناء "الشهية الذهبية" واسترجاع ذكريات "أول بيت" كما قال لنا في رحبة الصوف ويلتقي الكثير من سكان احياء قسنطينة الأخرى طيلة أيام الشهر الفضيل في طابور هذه الزلابية ذات الشكل والحجم والوصفة التقليدية الأصلية مؤكدين بأن جودتها تفوق زلابية بوفاريك ووادي الزناتي وعين البيضاء الشهيرة... ولا يتردد زوار المدينة القادمين من مختلف انحاء البلاد وكذا المهجر في التوجه صوب دكان عمي رابح للبحث عن ضالتهم الموسمية ومن يتذوقها لا يملك الا ان يعود اليها.. الهام.ط