من الأعلام التي تزخر بهم مدينة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2011 الوالي الصالح "أبو مدين شعيب الإشبيلي" الذي يعد أحد أقطاب الحركة الصوفية ببلادنا ورموزها لما اتصف به خلال حياته من ورع وزهد ليبقى إسما مقترنا بعاصمة الزيانيين العريقة. وقد ارتبط اسم سيدي بومدين بمدينة تلمسان وصار وليها الصالح بعد الحادثة التي جرت بقرية "تاقبالت" (على بعد حوالي 30 كلم) حيث وقع المشهد الذي يخلد وفاته حينما وصل الى هذه القرية في موكب مع أتباعه ومورديه وهو في طريقه من بجاية إلى مراكش (المغرب) نزولا لطلب السلطان يعقوب المنصور. إذ لما وصل الشيخ إلى المكان المذكور أصيب بمرض وانتقل إلى الرفيق الأعلى في 13 نوفمبر 1197 الموافق لسنة 594 ه فأبى تلاميذته إلا أن ينقلوه إلى "العباد" ضاحية تلمسان ليدفن بالمكان الذي كان يشكل موضع خلوة وزهد. وإحياء لهذه الذكرى اعتاد سكان المدينة وفي مقدمتهم جمع من رجال العلم و الثقافة والباحثين في التراث وموريدي الشيخ القيام بجولة في الجمعة الأخيرة من شهر نوفمبر من كل سنة من أجل "اقتفاء خطى سيدي بومدين عند زياته لأول مرة مدينة تلمسان" حسب أحد الأساتذة الذي أوضح أن "الجولة تشمل عدة مقامات منها مقام سيدي عبد الله بن علي و مقام لالة ستي قبل الانتهاء الى قطبية سيدي بومدين ب"تاقبالت". وبعين المكان يتلو الحضور آيات من الذكر الحكيم ويستمعون الى أذكار وابتهلات ودروس حول أعمال ومشوار سيدي بومدين لتنتهي الزيارة بأداء صلاة الجمعة ثم التجمع حول طبق "الكسكسي". وحسب المصادر التاريخية فإن هذا الرجل الصالح يعود منشأه إلى مدينة "كانتيانا" قرب إشبيليا بالأندلس حيث رأى النور في القرن الثاني عشر ميلادي وأخذ المبادئ الأولى من تعليمه بمدينة بفاس (المغرب) على يد "ابن حرزهم" و غيره من شيوخ عصره وأخذ التصوف عن "أبي يعزى". وبعد أن ذاع صيته في الأوساط العلمية و الدينية بالمغرب أبى هذا الشاب المتعطش للعلم و التصوف إلا أن ينتقل إلى المشرق للبحث عن مصادر العلم والمعرفة فتعرف بالبقاع المقدسة بشيخه الروحي عبد القادر الجيلاني وأخذ عنه الكثير قبل أن يعود إلى المغرب العربي ويستقر بمدينة بجاية فكثر أتباعه وموريديه وقد خلف مآثر وأشعار تكب جلها في أغراض الزهد والمديح. فصار يمثل أبو مدين شعيب بحق التصوف الأصيل الذي تميز به المغرب العربي في ذلك العصر بعد أن استمدت أصوله من النشأة الأولى للتصوف الإسلامي التي تميزت أساسا بالعكوف على العبادة والإعراض عما يقبل عليه عامة الناس. في ظل سيدي بومدين و أمثاله بالمغرب العربي صار التصوف يعني فيما يعنيه الطريقة السلوكية في العبادة وأسلوب التفكير واكتساب المعرفة الشيء الذي شجع ظهور الطرقات الصوفية المختلفة مثل الشاذلية والتيجانية وقد اتصف بعض الأقطاب الذين عايشوا أبي مدين أو جاءوا من بعده بالطريقة التي انتهجوها في تصوفهم مثل محي الدين بن عربي الأندلسي الظاهري وأبو الحسن الشاذلي. وبالنسبة لجهاده في سبيل الله وتحرير بيت المقدس من الصليبيين فقد سجل التاريخ لأبي مدين شعيب صفحات مشرقة من المواقف والبطولات باعتباره شارك شخصيا في المعارك الطاحنة بعد أن بادر إلى إنشاء رباط من الجنود والموردين بالقدس (فلسطين) للمساهمة في تطهير ثالث الحرمين الشريفين من الاحتلال. وحسب المصادر التاريخية فإن أبا مدين قد أبلى بلاء حسنا في أرض الوغى إلى جانب البطل صلاح الدين الأيوبي وقد صمد في المعارك إلى أن اجتثت إحدى ذراعيه ودفنت بالأرض المقدسة. واعترافا له بهذا الجهاد أمر صلاح الدين بإقامة وقف له ولأهله وتلاميذه يتمثل في ملكية تبدأ ب"باب المغاربة" حتي "باب السلسلة" وهي الأبواب الرئيسية للحائط الغربي للمسجد الأقصى المبارك الذي يدعى حائط البراق ويتضمن مزارع و بيوت وأملاك نفعية عديدة. والجدير بالذكر، أن صورة من نص وقفية الملك لآل أبي مدين المغربي محفوظة في مكتبة كلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد وفي مدرسة الدراسات الشرقية بجامعة لندن وفي سجل المحكمة الشرعية بالقدس. وبموجب هذه الوقفية صارت مدينة القدس الشريف بعد تحريرها ملاذا لقراء وحفاظ القرآن الكريم ورواة الحديث النبوي الشريف خصوصا منهم المغاربة من آل وتلاميذ سيدي أبومدين الذين اعتادوا أن يقيموا على الجانب الغربي من الحرم الشريف إلى غاية 1948.