باريس - لم يجد اعمر حسين الكلمات التي يعبر بها لشدة تاثره فذكريات ذلك الثلاثاء الأسود من شهر أكتوبر 1961 عادت إلى مخيلته حيث كانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها أحد رفقاء الكفاح يستشهد أمام عينيه فقد فارق حسان الحياة بعد الضرب العنيف الذي تلقاه على يد مجموعة من أفراد الشرطة التي تم تجنيدها بكثافة لمواجهة المتظاهرين المسالمين في قلب باريس. و يرى في هذا الصدد أن لا شيء يبرر مثل ذلك العنف البوليسي مضيفا أن "المظاهرة كانت كبيرة في حقيقة الأمر لكنها قبل كل شيء سلمية فقد كانت إحدى التعليمات الرئيسية التي وجهها لنا قادة المناطق لفدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا". هندام لائق دون حمل أي سلاح و هي التعليمات التي يؤكدها محمد غفير المدعو موح كليشي قائد منطقة بالولاية الأولى الجهة اليسرى من باريس و يقول في هذا الصدد أن "المتظاهرين ضد حضر التجول العنصري الذي فرضه قائد الشرطة موريس بابون كانوا مطالبين بان يكونوا في هندام مناسب و يتحلوا بسلوك حسن و يتجنبوا أي عمل من شانه أن يعتبر استفزازي و الا يحملوا أي سلاح حتى ولو كان خنجرا صغيرا". و يضيف موح كليشي أن "تلك التعليمات قد تم توجيهها إلى نوابنا حيث تكفلت شخصيا بذلك مع قائدي المنطقة طايبي بشير و بن حليمة صالح المدعو +الروجي+". بعد أن سجن من سنة 1958 إلى 1961 لنشاطاته في حزب جبهة التحرير الوطني استأنف محمد غفير مباشرة العمل كقائد منطقة و قام في هذا الإطار بتنظيم مظاهرة 17 أكتوبر في منطقته و يؤكد لوأج ذلك الذي كلفته جبهة التحرير الوطني بالإشراف على الضاحية الشمالية لباريس و الدائرة الإدارية ال17 من العاصمة الفرنسية في هذا الصدد "أن أوامر فدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا كانت تهدف في البداية إلى التظاهر يوم 14 المصادف ليوم السبت وهو عطلة نهاية الأسبوع الذي يشهد توافدا كبيرا في شوارع باريس مما سيعطي مزيدا من الزخم و الصدى الشعبي إلا ان أسباب تنظيمية عدة و الصعوبات في توجيه شعارات المظاهرة قد أدى إلى تأجيل المسيرة إلى يوم 17". كما أن الطابع السلمي لمسيرة 17 أكتوبر قد أشار إليه عسكري احمد المدعو امقران قائد منطقة باريس بالضفة اليسرى حيث أوضح في هذا الصدد أن "عملنا النضالي يجرى في الليل و أن حظر التجول قد جاء ليجعله اكثر صعوبة وقد ألقت الشرطة في هذه المرحلة على عديد مسؤولينا الذين كانوا يؤدون مهماتهم" مضيفا أن الوضعية أصبحت "لا تطاق" و لم يعد "من الممكن" بالنسبة لمسؤولي جبهة التحرير الوطني مواصلة العمل في وسط الجالية. كما أضاف انه "من خلال هذه المعطيات —التي تم إبلاغها بتفاصيلها لفدرالية جبهة التحرير الوطني بباريس— تم اتخاذ القرار الرامي إلى تنظيم مظاهرة سلمية للجزائريين بباريس" مشيرا إلى انه قد تم الاتفاق على أن لا يشارك أي إطار من جبهة التحرير الوطني حتى يتم "الحد من الخسائر لان صفوف الجبهة قد تقلصت بعد موجة الاعتقالات مما أثار المخاوف من القضاء على المنظمة". أما عيساوي محمد فقد كان سنة 1961 مسؤولا لجبهة التحرير الوطني في الدائرة الإدارية ال20 بباريس و يستذكر انه استقبل عشية المظاهرة مسؤوله المباشر "الجهوي" و مسؤوله الأعلى عن "المنطقة". مضيفا انه "لحسن الحظ أن مسؤولين آخرين على غراري قد شاركوا في الحملة الإعلامية التي كان يحب القيام بها في أسرع وقت خشية أن تتسرب شعارات المظاهرة إلى مسامع الشرطة" مذكرا بان تعليمات قد تم إعطاؤها من اجل التظاهر "بهندام لائق و عدم حمل أي سلاح". عنف مفرط من قبل الشرطة و إهانات على الرغم من طابعها السلمي فقد تحولت المسيرة إلى حمام دم حقيقي فقد كانت شرطة بابون تقمع المتظاهرين دون استثناء سواء كانوا شبابا أو شيوخا. و يحكي اعمر كيف انه رأى بباب فانسان رفيق السلاح يستشهد أمام عينيه ويقول في هذا الإطار "انه قد تلقى عديد الضربات و كان ينزف بقوة و لما يتكلم. كان أعوان الشرطة يضربونه مجددا بشدة فيما كان ملقى على الأرض" مضيفا انه لم يكن باستطاعته عمل أي شيء إلا تلقين رفيقه الشهادة و توجيهه نحو الشرق (القبلة)". أما قمة الاحتقار و الإهانة فكان الاحتجاز و هو العمل الآخر الذي يلجا إليه أفراد الشرطة حيث يؤكد بأنه "كان يتم احتجازنا كحيوانات في مكان واسع محاط بأسلاك شائكة بباب فارساي و قد بقينا هناك عشرة أيام مستلقون على الأرض دون ماء ماعدا قطعة خبز يابس و قدح من القهوة". أما بمركز الاحتجاز بفانسان فقد أكد عيساوي بتأثر كبير انه أمضى ثلاثة أيام كانت بمثابة ثلاثة أعوام كاملة بالنسبة له مضيفا أن "أفراد الشرطة الذين كانوا يراقبوننا كانوا يلقون المياه على الأرضية بشكل منتظم حتى يمنعوننا من النوم و إبقائنا واقفين". فيما أشار رئيس جمعية مجاهدي فدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا 1962/1954 آكلي بن يونس إلى "معركة باريس" التي كانت تقوم بها مصالح القمع الفرنسية مدعومة بمجموعات الحركة المندسين في الأحياء التي تقطن بها جالية كبيرة من المهاجرين الجزائريين مؤكدا "أن الشرطة الفرنسية مدعومة بأعوانها مثلما هو الأمر بالجزائر كانت تقوم ليلا و نهارا بعمليات مداهمة و اختطاف آلاف الجزائريين و وضعهم في محافظات شرطة و أماكن أخرى خصصت لهذا الغرض و إخضاعهم لشتى أنواع التعذيب و أكثرها همجية و إهانة على أمل الحصول على اعترافات من شانها المساهمة في تفكيك كلي لفدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا". و تابع يقول أن عمليات المطاردة الدموية التي تمت عبر كل العاصمة باريس قد رافقتها 12000 إلى 15000 اعتقال تم إرسال 3000 منهم إلى السجون و 1500 آخرين تم طردهم إلى قراهم الأصلية. و خلص المنسق الوطني السابق لفدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا أن حصيلة هذه الأعمال القمعية التي قامت بها الشرطة قد خلفت سقوط 300 إلى 400 شخص بالرصاص أو بأعقاب البنادق أو غرقا في نهر السين و 2400 جريح و 400 مفقود.