مثل كلِّ ملفاتنا، المثقلة بالأمل، الأمل الذي لا يعني في القاموس بأيّ حالٍ التأجيل، لكنه ملفٌّ يطويه ملفٌ يطويه ملف، فهكذا كانت الحكاية من البدء وحتى المتن الحالي للرواية، مع انفتاح النهاية على نفس الاحتمال الأول، لأنّ قاموسنا لا يعرف الملل، بما أنه وطّنَ نفسه على أن يقتات بالأمل، لأنه حتماً سيكون، هكذا استقر الأمر في آخر الروح، هكذا يعيش الفلسطيني، وهكذا يموت·· هكذا كانت الرواية غير الكاملة للشهيد عبدالله داوود، ليس فقط لأنه رحل غريباً، أو مبعداً، لكن لأنّه أيضاً كان شاهداً على المرحلة وشهيداً عليها، كان محترقاً بها وأحد إنجازاتها وضحاياها، وهو الذي ناضل في الوطن من أجل الشعب والمبدأ والوطن، ليُعاقب بالحرمان من الأهل الوطن، هل كان عليه ألا يفعل، لكي لا يرحل، وهل كان لو لم يفعلْ سيكتملُ الوطن، كان يحلم بوطن يتكامل هو فيه أيضاً، وطنٍ كما يشتهيه، فاختار أن يكون شاهدا وسياجاً له ولو عبر منافيه، مثل كل ملفاتنا هو ملفُّ مبعدي الكنيسة، والذي يحمل عبقاً يميز مسيرتنا باختلاط المقدس بالوطني، والسلاح بجرس المهد، وزي الراهب بترتيل القرآن ومشاهد الحصار التي أصبحت واقعاً وتراثاً فلسطينيا لا يقتصر فقط على الجغرافيا، ولا يجترحُ المشهدَ إلا نشازُ جنديٍّ يهودي مستورَدٍ يُصِرُّ على التفتيش وفحص الهوية، وهو نفس العنصر الناشز في كل الحكاية من أول المقدّس والبشارة والصليب إلى أقصى الحصار والجرح في الموال مروراً بالمنافي والشريان، فهم الذين أجبروه على مغادرة بلاطه، وقد أرغموا أباه على النزوح إليها، وهم الذين يسكنون دقائق روحه ويجبرونه على استراق إجازات يوسف لاختطاف حضنٍ في عمّان أو الجزائر، وهم الذين مزقوا الوقت ورفعوا الضغط، فهل مثل هذا هو الذي جعلهم يُلعَنون على لسان داوود، عبدالله داوود هو ملف المهد، وملف المهد هو أحد ملفاتنا الملفوفة في ملف، والتي نؤجلها للأمل، من ملف المستوطنة الأولى منذ قرنين من الزمان، إلى ملفاتٍ أصبحنا نهابُ من ذكرها، لكي لا نستفِزَّ المساحاتِ المهمَلة في العقول الواقعية، والتي تنتعش فقط عند الحديث عن الحقّ الكامل والعودةِ الكاملة والتحرير الكامل، مما يردعنا ويُعيدنا إلى شرط كلّ ذلك وهو التحرير الكامل الأوّل لما في داخلنا من إنسان، لنكون على أهبة القول الثقيل الذي لا تحتمله مساحات العتمة الكسلى، والتي كان عبدالله داوود يحاول الوصول إليها ويقرع الأجراس، ولهذا ربما كان لابدّ أن يُلقى في بُعدٍ آخر غير الزمان والمكان الذي يُسيّجُ الوطن، ملفاتنا تأبى نسياننا، حتى ولو أودعناها للأمل، ولم يَنسنا أيضاً أنّ اعترافَ المنظمة الدولية بهم في العام التاسع والأربعين من القرن العشرين رغم لا شرعيته كان من بين شروطٍ أخرى مشروطاً بإعادة كلّ اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم، فقد يطول الأمدُ على ملفِّ مُبعَدي المهد ليستقر في بعدٍ آخر من الزوايا المعتمة، فيصبح الحديثُ عنهم حينها مستفزاً لها، إذ أنّ عدوّنا يلجأ إلى نفيها ونفينا، ليس فقط في الجغرافيا، ولكن في بعدٍ آخر بعيدٍ عن سياج الوطن واحتمال الأمل، يشير غسان كنفاني إلى ''الشيء الآخر'' في روايته التي تحملُ نفس العنوان ويسأل: من قتل ليلى الحايك؟، ولعلنا لا نخطئُ كثيراً إن أشرنا إلى تورّط ''البعد الآخر'' في تفجير شريان عبد الله داوود·