في طفولتي كنت دائما أركل الكرة إلى الأمام·· وبعدها بدأت أركل العالم إلى الأمام·· دائما إلى الأمام، لم تكن لديّ أية مواهب، في ملاعب الطفولة ما إن تصلني الكرة حتى أركلها إلى الأمام كيفما اتفق··· في قريتي الصحراوية، واسمها ''لبالة''، كنا نلعب كرة القدم في كل وقت وفي أي مكان··· وبلبالة واحة صحراوية منسية في الجنوب الغربي، على أنها قديمة في التاريخ، حيث تقول الخرافة إنها عمّرت وخرّبت سبع مرات، وقد مرّ بها الحسن الوزان (ليون الإفريقي) في رحلته إلى مجاهل إفريقية، وهي مذكورة في كتابه الشهير اوصف إفريقياب· سكانها مزيج من المرابطين، والبربر، والشلح، والعرب، والزنوج ··· مازالت الحياة بها إلى اليوم رغم تعقيدات التكنولوجيا الطارئة بسيطة وفيها الكثير من الهدوء والسكينة ··· في طفولتي كنا نصنع الكرة من بقايا الأكياس البلاستيكية والكتان والصوف والخيوط، نكوّر ونربط، نكوّر ونربط حتى تستوي الكرة·· كنا نلعب حفاة، ذلك أن الأحذية الرياضية التي كنا نسميها ''السبردينة'' لم تكن متوفرة· كنا نلعب من الصباح إلى المساء، بمحاذاة مقبرة ''سيدي سالم''، كنا نحدد الملعب بحجرتين كمرمى، ونتقاسم حسب العدد، أحيانا كنا نلعب عشرة مقابل عشرة و أحيانا عشرين مقابل عشرين· ويبدأ اللعب بذلك العنف، وتلك القوة التي تكتنزها أجسادنا الصغيرة· كانت اللعبة تشبه (الريغبي) فقط ركل الكرة إلى الأمام·· حفاة في أرض متربة وبها حجارة صغيرة مدببة كثيرا ما تسببت في جرح أقدامنا، كنا نتداوى من تلك الجراح بأنفسنا، فقط تبول على جرحك ثم تذر على الجرح بعض التراب فتشفى وتقوم للجري وركل الكرة··· كثيرا ما كنا نلعب على (الكأس) وهذه الكأس، على من يريد أن يلعب أن يدفع أربعة دورو، كنا نجمع المبلغ في علبة، ونبدأ اللعب، أحيانا نلعب على ثلاثة أهداف، وأحيانا على خمسة، والفريق الفائز يفوز بهذه الكأس·· كنا نأخذ ذلك المبلغ إلى حانوت عمار، وعمار هذا كان كسيحا لكنه ماكر، وحانوته لا يغلق· كنا نتعمد مفاجأته في القيلولة علّنا نجده نائما فنسرق حلوى الكابريس اللذيذة وعلب حليب قلوريا الشهي، لكنه ماكر· ما إن يتقدم أحدنا إلى صندوق الحلوى حتى تنزل عصاه الطويلة على ظهره بضربة قاصمة، أخيرا ندعن ونشتري بغنيمة الكأس ما نشتهي ونتقاسمه· كان للكبار ملعبهم، وكانوا يلعبون بكرة جلدية كبيرة، كنا نجلس على الأرض ونتأمل مهارتهم ونحن نحلم بأن نصير مثلهم·· كان أمهرهم (بشير) وهو أشول، وكنا نسيمه (الفوشي) كان خفيف الحركة ومراوغا ماهرا· كان حشاشا وعازفا على العود والكمنجة··· أما (بابا علي) فقد كان زنجيا ضخم الجثة وقوي، كان كثيرا ما يمزق الكرة في الهواء بضرباته المتينة، كنا نستفزه بتلك الأغنية الشهيرة (بابا علي بن فاوة، شاشيتو مفعورة، فيها عود وطوبة)، فكان يترك الكرة ويجري وراءنا، وإذا أمسك بأحدنا فكانت صفعته تسبب له الرعاف وفقدان الوعي·· في ذلك الزمن لم تكن في قريتنا لا كهرباء ولا تليفون، كانت علاقتنا بالعالم مرتبطة بحافلة برتقالية من نوع (سكانيا) تأتي منتصف نهار كل سبت، ويأتي معها البريد وحوالات معطوبي حرب لاندوشين، وقليل من الغرباء·· كنا نوقف مبارياتنا والذهاب لانتظارها، وبعد أن نرى كل القادمين نذهب لإكمال المباراة· في طفولتي كنت دائما أركل الكرة إلى الأمام·· وبعدها بدأت أركل العالم كل يوم إلى الأمام·· في هذه اللعبة سر·· لم نكن ننته منها من الصباح إلى المساء ونحن نلعب، مثلما هو العالم هذه الأيام، كرة القدم تحوّلت إلى عقيدة جديدة لجماهير العالم·· البعض يتمتع بها ويستمتع، ونحن في الجزء المظلم من كوكبنا أصبحت عزاء لنا عن خيباتنا وخساراتنا، حتى جدتي وهي في عقدها التاسع تسأل عن أخبار بوفرة وزياني، ويعجبها كثيرا شاوشي وتدعو له بالنصر···