طرح الصديق الكاتب الدكتور عبد الله حمادي، من خلال مخبر الترجمة في الأدب واللسانيات، الذي يشرف عليه، في الملتقى الدولي الأول الذي التأم بجامعة قسنطينة يومي 7 و8 جوان الجاري موضوع: ''الجزائر في الكتابات المتوسطية''· وليقيني أن هناك علاقة حاصلة بين موضوع الملتقى وبين الصدام التاريخي الذي حدث على مدى مائة وإثنين وثلاثين عاما بين فرنسا الاستعمارية وبين الجزائر المقاومة صدام يصادف الباحث والمهتم والقارئ كقدر لا مفر من مواجهته ، ارتأيت أن أشير إلى نقطة جديرة بالاهتمام، كان يمكن أن تكون أحد المحاور الإضافية إلى تلك المحددة في ورقة الطريق: إنها صورة الجزائر في الأدب الكولونيالي· ذلك، لارتباطها المباشر بالكتابات السردية والشعرية والمسرحية والسيرية وكذا بالفن التشكيلي وبالشريط المصور الورقي والسينمائي وبالمقالة الصحفية والصورة المرافقة لها· ولو أني أقدر أن ذلك يعد مجازفة، للانعكاسات التي قد تنجم عن فهم سيء وقاصر وربما معكوس لِما قد يترتب على قراءة المدونة الكولونيالية التي يبدو أننا لا نملك إلا شذرات من أرشيفها ؛ لأن تاريخ الاحتلال نفسه كما تاريخ حرب التحرير مفخخان بزوايا الظل والمسكوتات عنه· كما أقدر ما قد يثيره ذلك من تأويلاته، تحت ضغط السياسي والتاريخي والأيديولوجي، لحساسية ما تحتفظ به الذاكرة عند هذا الطرف كما عند ذاك من وقائع الصدام والمواجهة والاستعادة والضياع والحنين والارتباك في تقبل ما وقع بصفته غزوا وما تلاه بصفته تحررا· ثم ما أعقب هذا وذاك من نزاع غير معلن وأحيانا مجهورا به حول الهوية واللغة والفعل الاستعماري منظورا إليه كما وقع؛ لا كما يراد له أن يكون عكْس حقيقته· أظن أن عشرية هذا القرن الأولى أضحت، في مجال الاهتمام بوجود الجزائر خلال مرحلة الاحتلال عامة وفترة حرب التحرير خاصة، من أهم الدلائل على وعي لافت عند الأنتلجنتسيا الجزائرية، كتابا وباحثين ومؤرخين وروائيين· إنه جهدهم المشترك، برغم قلة تنظيمه وتأطيره، أن يتموضعوا في فضاء تاريخي وثقافي طالما أحسوا أنفسهم خارجه؛ بما فرضته الإكراهات السياسية وبما كرسته رؤية ( الآخر) إلى هذا الفضاء كونه حيازة تاريخية سابقة كما هي في بنيتها الكولونيالية وبسعيه إلى أن يتم أي تطور لاحق ضمنها، من حيث اللغة خاصة ومن حيث العلاقات الثقافية والتجارية الامتيازية· إني أضم صوتي إلى صوت الباحثين المنصفين الذين يتساءلون: وماذا لو كتب تاريخ فرنسا الاستعماري للجزائر في الجزائر بدل كتابته في باريس؟ وأضيف من جانبي: وهل تجرؤ يوما جامعتنا الجزائرية، بكفاءاتها الحالية وحتى تلك التي هاجرت، على فتح ملف الأدب والفن اللذين رافقا عمليات الاحتلال والاستيطان والحرب؛ مع تقديري مسبقا أن ذلك لن يتم من دون تدخل الإرادة السياسية؟ إن نظرة تأمل في صيغة ''الجزائر في الكتابات المتوسطية'' بكلماتها الأربع: الجزائر؛ بما تُثيره في الذهن من مسافة زمنية· في المحيلة على صورة الجزائر· الكتابات؛ بأجناسها كلها وفروعها الصادرة عن الجزائريين أنفسهم وعن غرهم· المتوسطية؛ في بعدها الجغرافي الملتم على البحر، تعطي مثل هذه المحصلة: جغرافيا: ذلك يعني مجموع ما ألف عن الجزائر في البلدان المحيطة بحوض المتوسط وبجميع لغات أممها، وهو في تقديري شيء ضخم وهائل؛ حتى ولو قُصر على إيطاليا وإسبانيا وتركيا وفرنسا، مثلا· تاريخيا: المسافة الزمنية التي استغرقها وجود الجزائر عبر الاحتلالات المتعاقبة عليها؛ بدءا بالفينيقيين، مرورا بالقرطاجنيين والرومان والوندال والبيزنطيين، وانتهاء بالفتح الإسلامي، ثم معاودة مع الوجود العثماني وانتهاء مرة أخرى مع الاستعمار الفرنسي· تصنيفيا: ذلك يشمل مجمل أجناس الكتابة الأدبية والصحافية والتاريخ والاجتماع والرحلة والمذكرات· ضمنيا: وذلك ما يحيل عليه الموضوع، كل ما أنتجته المؤسسة الاستعمارية من دراسات استكشافية وشهادات ومذكرات؛ تمهيدا للغزو· ومن كتابات رافقت عمليات الاحتلال وبررته وسوغته ودافعت عن استمراريته وكرسته واقعا وصورته حقيقة قائمة· فبقدر ما قدمت تلك الكتابات، إلى الواجهة، العنصر الأوروبي الوافد المستوطن ووصفته بالجزائري الذي امتلك الأرض والهوية الجديدتين، بقدر ما غيبت الساكن الأصلي وجردته من مواطنته وأضفت عليه صفة ''الأنديجان'' الطبيعية أو ''العربي'' أو ''المسلم'' أو ''البربري'' الإتنية· ولما كانت ''الجزائر في مشاهدات الرحالة''، من بين محاور الموضوع، أشد جذبا بالنسبة إلي، سمحت لنفسي بأن أقحم شذرات من مشاهدة الرحلة التي قام بها الكاتب الفرنسي غي دو موباسّان (1850-1893)عبر الجزائر، من خلال كتاب: لأسوغ بها وبغيرها من شذرات كتابات أخرى، حديثي عن الصورة التي رسمت للجزائري وللجزائر خلال عمليات الاستيطان· فهي مشاهدة ترسم في مجملها صورة إيكزوتيكية عن الجزائر المغلوبة من خلال التمثيل للثأر بالمُواقَعة الجنسية الإكراهية التي يمارسها الغالب على المغلوب في لاوعيه المشحون بصور الهزائم التي ألحقت به؛ بدءاً بالأندلس، مرورا بالقدس وانتهاء بالقسطنطينية· فبالرغم من أن كتاب رحلة غي دو موبّاسان صادر في 2003 بباريس وموزع في الجزائر، فإن سنداته التزينينة من الصور الفوتوغرافية أو الخطية لنساء جزائريات في مجونهن نصف عاريات مدخنات في سيما متوحشة، ولمشاهد من حياة الجزائريين الخالية تماما من أية حركة عمل أو نشاط غير الفراغ والجنس أو اللهو، كما يظهر في استعمال بعض منمنمات محمد راسم، أو التسلية كما في صور للفروسية، تؤكد في جانب منها طبيعة العلاقة بين السرد وبين الفن التشكيلي الكولونياليين في تيمتهما الإكزوتيكية· (يتبع)