ضمن تراتبيات الأجيال يأتي جيل عبد الله شريط هو الأكثر عطاءا في الكتابة عن المسألة الثقافية على وجهها الأوحد ونسقها الموحد وسياقاتها التي تدقق في مفهوم اللغة أولا، في مفهوم الثقافة أولا كذلك، في مفهوم الأمة ثانيا وثالثا تأت موضوعات كثيرة عن العصبية والأخلاق أو الكولونيالية وشرّها المستطير أو الإرث الخلدوني المتروك للهوامش والتفصيلات والقراءات· هذا التعاطي مع مسألة الثقافة كان يموضع الحقل النظري للكتابة الثقافية موضعا مهما في المشابهة أو التشابه و يبعدها- الثقافة الجزائرية - عن التضاد والمشتبه، الموازي والمناوئ، الهامشي والمتبدل، الشعبي والمزاجي والموضوعي فضلا عن التغريبي والمفرنس و الحداثي··· إن جيل عبد الله شريط وأبو القاسم سعد الله وعبد الله الركيبي وأحمد بن نعمان وعثمان سعدي انطرحوا على المساحة الثقافية بالتنظير والتأسيس وبالمفاهيم التعريفية للأشياء، كل الأشياء، مسكونين بدهشة أفكارهم الأمبريالية مشغوفين باللغة وهوس الذود عن حياضها، وبالتفكير الفلسفي الرصين، الكلاسيكي، الذي لا يزيغ ولا يشطط ولا يسقط في المبهم، الآسر، الظليل، كما هي كتابة اليوم ونثر اليوم وموضوعات اليوم·· هذه المتشابهات التي اعترت جيلا كبيرا، ممتدا، بامتزاجات مختلفة وشجرة أنساب ومناطقية سرعان ما كانت تبدو لجيلنا أنها كتابة عقائدية تحرّض الإيمان، تحرض الوطن على أن نحبه، تحرض على العشيرة، فلا نملك إلا أن نتعاضد معها وأن يعذر بعضنا بعضا على الخطأ وأن نكره المتآمرين على اللغة والوطن والمخاتلين الذين يترصدون زلاتنا فلا يكلون طرفة عين أو اغماضة جفن أو غفوة جندي جاء بيته ونسي المعسكر، كانت هكذا دروس المعلمين، الشراح، و كان هكذا درس الكتابة القائم على زوايا وأساسات واضحة لا عوج فيها أو عليها، إن الزيتونيين و تلاميذ مدرسة الصادقية، وأفاضل الإصلاحيين وظرفاء جمعية العلماء المتبقين- ومن قضي النحب- لطالما استمروا في التعاطي مع العالم غربه وشرقه، استعماره ومستعمريه، أحوال الحياة وعناصرها بذات الكيفية التي كانت تنجر بها الوظائف الأخرى فلا مجال لذبذبة أو تشويش أو مغالطات أو فنون تضليل ··· إنها سمة من تأثروا بإصلاحية العلماء وأفكارهم المناوئة لروح الاستعمار وأدواته، كتابة تحت هاجس بقاء الهوية كاملة الأوصاف بلا تخريب أو خلخلة أو تهجين، كما يعسر اختراق التنظيرات المبنية على منهج وطريقة وتوليف، فعند قراءة الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون لعبد الله شريط لا تجد المناخ الملائم للتفكيك حتى يعول بمعولة ولا قدرة ممكنة حتى في كشف الآليات التي يستند عليها هذا الخطاب العتيد حول ابن خلدون وأفكاره التاريخية، وكذلك معركة المفاهيم· إن كتاب عبد الله شريط ''معركة المفاهيم''هو في الحقيقة كتابة في الدرس، كتابة في التعريف، وتعريف التعريف، وهو كتاب إشكالي، سجالي، صراعي، متوتر، رغم أنه ينتمي إلى هذه التصنيفية الصارمة التي تطرف فيها أيما تطرف الجيل السبعيني الذي وطن المسألة الثقافية ولم يتوان في مبارزة الخصوم المفترضين والأدعياء والمفرنسين حسبما كان يتداول آنذاك و في كل مرة· لقد كانت مسألة الثقافة هي مسألة الوطن ولذلك كانت تكتب وتنظر وتنتج حولها الخطابات ذات المصب الواحد والسياق الواحد، كان التنوع ينظر فيه كإهدار للقيمة وللاختلاف الثقافي ونزعة التغاير كما في الإشكالية البربرية وموضوعة اللهجات· كان ينظر لذلك تطفيف في حق و في ميزان الهوية ولم يكن للثقافات تخوم ومشارف وعتبات عكسا من ذلك كان يجري معاطاة القضايا بالدخول في صلب الموضوع مباشرة بحماسة و ببلادة أحيانا، وليس في ذلك أي نفي للمعرفة والابسمولوجيات ولا نفيا يكون قد تم للمناهج وللعلوم ولا حواصل أفكار نافعة و بيانات مهمة وشروحات مستفيضة تقدم في هضمها متمدرسو جامعة الجزائر والجامعات الأخرى أو عشاق الحرف الغربي، أو مدرسو العربية وكذلك الميالين إلى التفكير الفلسفي الهادئ، المنطقي، الإصلاحي، بنبرته ضد التغريبية· إنها أحوال وهواجس ومشاغل الثقافة الجزائرية، ثقافة آنذاك التي انشغلت بالبحث والتطويع النظري والتمرين على المفهومات والرموز كالأمة والوطن، اللغة والهوية، الشعب والدولة، المجتمع وتقاليده، السلوكيات والعادات، الملاحم التاريخية والثورة، الشهادة والشهيد، الديمقراطية الاشتراكية، التنميات المحلية وازدهار الريف، ولنزد على ذلك الشغف بحرب ثقافية ضد الظاهرة الاستعمارية والمروجين لها ولحولياتهم وأفكارهم الهدامة كما كان يجب أن يقول الرجل الطريف الموسوعي، المفكر، البربري، العروبي، الشيخ مولود قاسم نايت بلقاسم· إن عبد الله شريط على مبدأ المجايلة الذي خططنا به هذه المقالة ينشز بعض الشيء على خطابه المركزي والمندرجين تحت هذا الخطاب العربي، العروبي، القومي، الهوياتي ··· المؤسس للثقافة الجزائرية ووطنيتها· هذا النشاز يتبدى في رؤيته الدقيقة والتقنية الذكية لعملية التعريب التي كانت تأخذ الوقت والطاقات والمال من الدولة الوطنية بإسراف مقيت لا يضيق سوى الغرفة والانقسام في المجتمع الجزائري الذي ينوء بأثقال الجهل والعمى الفكري والفقر والشعبويات، لقد كانت حادثة مثيرة تلك التي تلاوم فيها وانتقد شخصا مقتدرا، مثقفا وطنيا، عالم بلاغة وفلسفة وهو المفكر مصطفى الأشرف ··· إن مصطفى الأشرف لما تولى وزارة التربية كتب مقالا ضد العربية والمعربين وضد المدرسة العربية ونشرها بجريدة ''المجاهد''الناطقة باللغة الفرنسية، فاستغرب الدكتور شريط لهذا الموقف النابع من مثقف وطني- لا يشك فيه- فكتب ردا على الأشرف بجريدة الشعب في شهر سبتمبر عام 7791 م- دافع فيه عن المدرسة العربة في الجزائر ·· هذا الدفاع الذي انبرى له شريط لم يحمل إلا على محمل السخرية، فلقد كان من المعيب أن ينوجد في المقهى- في إحدى مقاهي العاصمة - اليمين المفرنس وهو يقرأ مقالات الأشرف واليسار المعرب يقرأ مقالات عبد الله شريط، فكأنها المانيفستو ضد، أو البيان ضد الآخر المختلف· قلت إن النشاز والخروج عن السرب عند شريط لم يجعله في رؤاه مجرد داعية عربية، أرثودكسي، متزمت يحمل الاحتقار إلى الفرنسية وهو لم يكن من هؤلاء العقائديين، المروجين، الدعاة للتعريب الشامل والفوري· فأصحاب المسحة الراديكالية المأفونة هذه لم يكن منهم الفيلسوف فما عرف بالاختيار الأساسي للسياسة الوطنية آنذاك كان يبرمج فتيلا من نار يصعب إطفاؤها في الجماعة الوطنية وحساسيتها لمثل هذه القضايا التي بدا وكأنها المعركة من أجل القيمة والرمز أو المعنى والجاه أو الوجود والمال أو المكسب والحظوة، و لما يكون السجال على هذا النحو من حروب الإلغاء يظهر صوت المفاهيم المعقلنة الذي يقدر على أن يجفف التعصب اللغوي ويهدئ من روع الجبهة الثقافية الخائفة على مصائرها وامتيازاتها ومغانمها· كانت المعركة حول التعريب معركة بلا طعم ولا نكهة ويزيدها الصغار والمريدين نفثا يحرق غابة الوطن المتنوع، المترع بالخبرات، عاش خلالها أرثودوكسيو جريدة الشعب وفريقهم المنافس في جريدة المجاهد الناطقة بالفرنسية كافة أشكال الارهابات والتسخيفات فيما بينهم ··· وفيما بينهما راحا ينزعان أكثر إلى التضاد والاصطفائية الكاذبة والتخطي خلف أقنومي الشرق والغرب، شرق المعربين الذي يخلق عربية، عربيانية كلاسيكية مأسورة بأحلام الماضي والأجداد القادمين على صهوات النبالة والنسب الشريف وكرم المحتد، غرب الفرنكوفونين المشغوفين بالمخيال الفرنسي وتأدوية دور المداعبين الجيدين لذائقة وذاكرة المتنصر الاستعماري الذي اشتغل في سنواته المرة الكثيرة على المحور والإزالة والاستئصالية، إذاك لم تكن النماذج المتجاذبة إلا كصورة لعملة واحدة، عملة تخفي ثالوث العقيدة، القبيلة، العنيمة، لقد كان ألطفهم وأكثرهم نباهة كما تشير إلى ذلك اللسانية خولة طالب الإبراهيمي، عبد الله شريط، فهو من فئة المعربين الممتازين، النابهين غير المستلبين· ولو ترجم كتابه الشهير المكتوب على المزاج الخلدوني ''معركة المفاهيم''إلى الفرنسية لقال عنه فرانكفوني متعصب أنه كتاب جيد في التفكير اليومي لكل قضايانا المعاصرة ومع هذه المدرسة في التفكير والكتابة والنظر، يصطف كتاب أخف إيقاعا وتناغما مع الشرق الساحر بالجنوح إليه والاستكانة إلى ماضويته ومع الغرب الاكزاتيكي في طبعته المدبلجة بالفرنسية منهم محمد شريف ساحلي، طالب الإبراهيمي، هاشمي التيجاني، عبد العزيز الخالدي ومنهم عبد القادر جغلول ومنهم عبد المجيد مزيان ومنهم عبد الله شريط··