نظمت ''الإغاثة الكاثوليكية'' لمدينة ليون الفرنسية رحلة سفر إلى الأراضي الفلسطينية المقدسة، في الفترة الممتدة بين 17 أكتوبر 2008 و27 أكتوبر ,2008 وكان من بين المسافرين، صحفي جزائري، تمكن أخيرا من تحقيق حلمه وزيارة تلك الأماكن، حيث نزل في مطار بن غريون، ويواصل رحلته إلى المسجد الأقصى، مرورا بصحراء النقب والضفة الغربية· أمام بئر إبراهيم عند غروب الشمس، رتل بعضنا الإنجيل، نفثت دخان سيجارتي محتشما بعض الشيء، إذ لم أستطع رؤية هذا البئر ولا فهم ما يقال· كان الديكور في نظري أكثر من أليف، إذ أن ناحية بئر السبع تشبه كثيرا الهضاب العليا الجزائرية: نفس الجفاف، ونفس الضوء، والنبات·· عندما حطت بنا الطائرة في مطار بن غريون، سلكنا طريق النقب، وراودني إحساس بأنني نزلت بمدينة الجزائر لأنتهج طريق بوسعادة، واحة الشمال· وفجأة، سمعت من بعيد الأذان، لقد نسيته قليلا، أنا القادم من فرنسا، منذ ساعات قليلة· وفوق ذلك فإن أجوب إسرائيل دون رؤية يهودي، ومعبد يهودي وبسبب عيد الأكواخ، جعل لحن المؤذن أمرا سارا لي· عندئذ رغبت في التوجه نحو مصدر الأذان ذلك لأنني أعتقد أنه ما دام هناك أذان فثمة بشر، وإذا كان هناك بشر، فإن هؤلاء لا يتحدثون العبرية فقط، بل العربية أيضا، وبالتالي فهناك إمكانية للتواصل، والتبادل، وطرح أسئلة وبذلك أعرف كيف يعيشون مع هؤلاء اليهود، وكيف يعيشون في إسرائيل هذه التي كثيرا ما انتقدتها وسائل الإعلام العربية عند إيراد التجاوزات اليومية التي يعاني منها الفلسطينيون· ولكن الوقت متأخر، ويجب العودة إلى الفندق، إذن، عليّ بالصبر، وأنا متأكد من أنني سألتقي خلال رحلتي بيهود، وعرب، ومسيحيين، ومسلمين، وبالأماكن المقدسة وأماكن الفرقة· وفي صباح يوم الغد، كنا في الخليل، وبسرعة فهمت أن المدينة تحت الرقابة العسكرية؛ الجزء السفلي منها: نقاط تفتيش، أبواب دوارة، عدد كبير من الجنود الإسرائيليين، من بينهم فتاة لطيفة وحيوية تحسن الفرنسية· وقد أوضحت لنا أنها باريسية وأنها تؤدي خدمتها العسكرية لأنها تحب إسرائيل· وتحدث لنا جندي درزي باللغة العربية· وقد اعتراني خوف من إمكانية استدراجي في الحديث للحصول على معلومات ومعرفة هويتي؟ كانت المراقبة دقيقة ولكنها بدون عنف، وبالتأكيد فإن مرد ذلك كوننا فرنسيين· بعد الزيارة، كشف لنا مرشدونا عن الاستيلاء غير الشرعي للمساكن من طرف المستوطنين في قلب الحي العربي· وشبان هذا المكان، القادمين، عادة، من كندا ومن الولاياتالمتحدةالأمريكية، الفضلات والحجارة ومفاجآت أخرى غير سارة على المارة· في هذا الوقت التقينا ''شانطال'' فرنسية متزوجة من فلسطيني مقيم في الخليل منذ اثنتي عشر سنة، وتحمل هذه المرأة على عاتقها جمعية فرنسا الخليل، التي تتولى تأطير جماعات من السيّاح وتمكينهم من زيارة ضريح إبراهيم· كما تقوم الجمعية بنشاطات موجهة للأمهات والأطفال الفلسطينيين· وهي تضمن، بشكل منتظم، مجالا للعب، ومكانا للمطالعة ومراجعة الدروس· كما تنظم لفائدة تلك الأمهات مداومات للخدمة الاجتماعية وحصص للحركات الرياضية· ولشانطال طفلان بدآ يعيان الوضعية الخاصة التي يعيشانها· إن هذا الأمر يقلقها ولكن، نظرا لشجاعتها، فإنها لا تتردد في الغطس روحا وجسدا في الحركة من أجل تحسين الحياة اليومية لعائلتها، وحياة أصدقائها الفلسطينيين الذين تعلمت معهم العيش والحب· أبو عمار في فندق ''شيفيرد'' في اليوم الموالي، في بيت لحم، ربطت علاقة مع سائق حافلتنا، عربي من أراضي ,1948 مزدوج اللغة إنجليزي عبري، هادئ، لا يتحدث سوى بتقتير، ولكنه أصبح فصيح اللسان عندما اكتشف أن بعضنا يتحدث العربية، والأكثر من ذلك عندما علم أننا جزائريين· فبدأت الضحكات العالية وتصريحات الإعجاب الكبيرة بالثورة الجزائرية التي نجحت في التخلص من الاستعمار الفرنسي· عند وصولنا إلى فندق ''شيفيرد'' استقبلنا بلوحة كبيرة لياسر عرفات وهو يدشن المكان، ويبدو المكان أنه نقطة تلاقي الأوروبيين في المدينة· عندما وصلنا كان وفد من جماعة أهل المعبد يحتسون جعة ويدخنون، وبعد أن وضعت حقيبتي في الغرفة، قررت الذهاب لاكتشاف الحي· وبرفقة محمد وسعيد، صديقيَّ منذ مدة طويلة، تجولنا دون أن نبتعد كثيرا، ونحن نبحث عن مقهى· كان الحي في بداية الأمسية شبه خالٍ؛ إذ لم يكن هناك سوى بائع جوال، ومحل للهاتف النقال مفتوحا· دخلنا إلى المحل وتبادلنا بعض الحديث مع صاحبه باللغة العربية· واشترى محمد شريحة هاتف إسرائيلية· وقد سألنا البائع، وهو مسرور، عن مقدمنا· وقد اندهش لما علم أننا جزائريين نعيش في فرنسا، إذ لم يكن قد التقى بأمثالنا من قبل، فالسياح الذين يلتقي بهم هنا هم سياح غربيون: إنجليز، ألمان، أمريكان· ولذا فإن وجود جزائريين في محله أمر يستدعي تقليصا لا بأس به في الثمن· في اليوم الموالي، زرنا مستشفى الشركة العربية لترميم بيت لحم، الواقع في أعالي المدينة· الحي يبدو راقيا وبناية المستشفى جديدة· هنا يداوي الجميع، ويستفيد الفقراء من تخفيض حسب حالتهم· وقد استطاع مديره إدموند شهيد، الرجل المقنع جذب الكثير من التبرعات والمساعدات المالية من فرنسا، البلد الذي درس فيه الطب· وكانت واحدة من وفدنا مكلفة بتسليمه ظرفا ماليا منحته له بلدية ''ديسين'' بمنطقة الرون· بعد لحظات، غادرت القاعة لأذهب لتدخين سيجارة· وقد التقيت بعض المرضى وتحادثت معهم· وقد فهمت أن العلاج هنا غالي، وأنهم يتمنون لو أن المستشفى يخفض أسعاره· فيما بعد، في كنيسة الميلاد، فوجئت واندهشت من سماع القداس الأرثوذوكسي باللغة العربية· أنا المولود في الجزائر التي لم يعد بها، فعلا، مسيحيون، استغربت فكرة أن يكون المرء عربيا وغير مسلم· الكثير من البخور والأغاني، وجو عائلي حقا· وبإمكان الأطفال الصغار اللعب مثلما يحلو لهم رغم هدوء المكان· تناولنا غذاءنا عند الملشيين· بعد الظهيرة، زيارة مخيم عايدة، في مدخل المكان، مفتاح ضخم محمول على قوس يذكر الداخل إليه أنه في مخيم مؤقت وأن ذات يوم سيأخذ المفتاح لإعادة فتح بيته الذي سلبه منه المستوطنون القادمون من مختلف أنحاء العالم· هنا، توجد جمعية ''الرواد'' التي يقودها عبد الفتاح أبو سرور، التي تعلم الشباب المسرح في محل مجهز نسبيا· ولكننا لاحظنا أن أغلب الفتيان بلا عمل وأنهم يقضون أغلب أوقاتهم وأنظارهم موجهة إلى جدار الإسمنت الكبير الذي يحاصرهم مثل ثعبان بوا· والأكيد أنهم ينتظرون تقدمهم في العمر قليلا لكي يذهبوا لتحدي الجنود في مراقبهم· انتهزت الأم فرصة جولتنا في أزقة المخيم لتقول باللغة العربية لأحد مرافقينا: ''هل يمكنهم أن يساعدونا بقليل من المال؟'' فرد عليها على الفور: ''هؤلاء الناس ليسوا أغنياء وهدفهم هو الإطلاع على وضعنا حتى يشهدوا على ذلك في بلدانهم عندما يعودون''· بعد بضعة أيام من مرورنا به، حاصر الجيش الإسرائيلي المخيم ومنع الدخول إليه وأخضع أهله للتفتيش الدقيق· وبعد يوم من الحصار، انسحب العسكر قائلين للسكان بأن ذلك كان تمرينا أجري للشبان المجندين الجدد· في نفس اليوم، استقبلنا في بلدية بيت ساحور، المدينة المتوأمة مع ''فول أو فلان'' الواقعة في منطقة الرون، استقبلنا نائب شيخ البلدية المكلف بالعلاقات الخارجية الذي قدم لنا لمحة مطولة: ترجمت ما استطعت من كلامه وبدأت أشعر أن رفقائي بدأوا يخضعون للتعب· وبعد مشروبات أنعشتنا، توجهنا إلى ''وش الغرب''، وهو حي أعاده، مؤخرا، الجيش الإسرائيلي إلى السلطة الفلسطينية· واليوم، فإن هذا الحي عبارة عن روضة أطفال جديدة تماما، وقد كان قبل أشهر، مكانا لتجمع الجيش ويجري فيه تعنيف الشبان الفلسطينيين· وروت لنا ''نوال''، إحدى مرافقاتنا، هذه القصة المأسوية التي حدثت لأحد أبنائها: ''أوقفت دورية عسكرية ابني في وقت متأخر من الليل، واقتيد إلى هذا المخيم وتعرض للتعنيف· وبعد أن أخبرني شبان شاهدوه، ذهبت في عز الليل إلى المخيم لتخليصه من قبضة الجيش· فخرج الجنود بلباس النوم من مخادعهم فدعوني لأن ألتحق بهم عوض البحث عن ابني· وقد قضيت كل الليل أمام المخيم أنتظر الإفراج عنه، ولكن ذلك لم يتم سوى في وقت متأخر من اليوم· وعندما عاد ابني مصدوما، لم يتوقف عن التفكير في وسيلة يغادر بها البلاد في أسرع وقت ··هو، اليوم، مقيم بإنجلترا، منذ ثلاث أو أربع سنوات''· لقد تمكن الإسرائيليون من دفعه إلى مغادرة البلد بهذه الأساليب وهو نفس الشيء الذي حدث مع الكثير من الشبان المسيحيين الذين غادروا أراضيهم وقراهم· إن الصهاينة يعتبرون هذه الممارسات بمثابة مأثرة حربية: طرد العرب من الأرض الموعودة· فيما بعد توجهنا نحو حي آخر، إنه قرية أكثر منه شي آخر، وهي محاطة بحقول الزيتون· إنها موسم الجني، وكانت القرية قليلة السكان· كنا نرى في أمكنة بعيدة الناس وهم يعملون في حقولهم· هنا، سررت كثيرا لمرأى صور الراحل جورج حبش، الزعيم الكبير للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في عدة أماكن في القرية· المؤكد أن القرية تضم الكثير من مناضلي هذا الحزب· في خاصرة الجبل تقوم بناية جديدة، إنه مستشفى ممول كلية من طرف كاريتاس· وهو مستوصف جد مجهز ولكنه غير عملي كلية في الوقت الحاضر، لذا فإن الزيارة كانت خفيفة· عند مهد المسيح في الظهيرة، عشنا فترة تبادل كبير في جامعة بيت لحم· وتتمتع هذه المؤسسة بمعمار رائع، ملائم ومفتوح على المدينة· وعند دخولنا استقبلنا بأعداد لا حصر لها من أعلام فتح، وحماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والفصائل الفلسطينية الأخرى· وكانت اللافتات والملصقات تحمل ذات الخطابات المناضلة الأكثر إثارة للجدل، ولكن وخلافا لذلك، كان شبان، من الذكور والإناث، يتبادلون أطراف الحديث محترمين كتابات بعضهم البعض· هل سيكون هذا أول مهد للديمقراطية الفلسطينية؟ على كل، فإن الأب جمال خادر يبدو مقتنعا بهذه الفكرة· وفي تقديمه حدثنا هذا الأب ليس فقط عن نوعية التعليم المقدم في هذه الجامعة الكاثوليكية، ولكن أيضا، عن النقاش الدائر بين الطلبة حول مواضيع الاحتلال، المقاومة وكذا التنافس السياسي بين الإسلاميين والعلمانيين· وحسب رأيه، فإن الكل هنا منخرط في اللعبة وهو مقتنع بأن الديمقراطية الفلسطينية لا يسعها إلا أن تغتني بانفتاح الجامعة هذا على السياسيين· كما لم ينس إخبارنا بالصعوبات التي يلاقيها الأساتذة في التعليم، إذ أن نشاطهم يواجه الرقابة العسكرية بتدخلاتها المتكررة التي تسلم بقدر ضئيل رخص المرور التي تسمح بالذهاب إلى جامعة بيرزيت برام الله أو بمجيء الطلبة من مدينة الخليل، مما يجبرهم على سلك طرق ملتوية لمدة أيام للقدوم لأداء امتحاناتهم في بيت لحم· أما طلبة غزة، فإنه يمنع عليهم الخروج من الحصار الذي يفرضه الجيش الإسرائيلي· ووحدها الدروس بواسطة الفيديو، التي تقدم، منذ ثلاث سنوات، تسمح للطلبة الغزويين بمتابعة مسارهم الدراسي· وفي نهاية الأمر، لم يستطع هؤلاء الحصول على شهاداتهم إلا بعد إجراء امتحانات في مدينة رفح الحدودية المصرية إذ أنه كان يمنع عليهم الذهاب إلى بيت لحم لإجراء امتحاناتهم· يتبع