في حدود الساعة التاسعة من ليلة أول أمس الثلاثاء، رحل المفكر الجزائري البارز محمد أركون عن عمر ناهز ال 82 سنة، بعد مسيرة علمية وفكرية حافلة، ومعاناة شديدة مع داء السرطان·''السياج الدغمائي المغلق''، ''اللامفكر فيه''، و''مستحيل التفكير فيه''·· هي بعض المصطلحات من التراث الأركوني الكبير، ولئن بدت منفصلة فهي متصلة اتصالا بفكر الراحل محمد أركون الموزع على كتبه ومحاضراته الكثيرة، فالسياج الدغمائي المغلق الذي يعيش فيه الفكر العربي الإسلامي منذ أن أغلق باب الاجتهاد يضيق يوما بعد آخر ليترك مساحات واسعة للامفكر فيه، والمستحيل التفكير فيه إلا إذا انهار ذلك السياج وفتح باب الاجتهاد من جديد وفق أحدث مناهج البحث العلمي وتطبيقها بشجاعة علمية نادرة على التراث الإسلامي· لقد حاول خصوم أركون تلخيص فكره و''تعليبه'' ضمن دائرة الاستشراق دون أن يقرأه الكثير منهم، ولم يكن يبالي بتلك القوالب الجاهزة التي أرادوا حصره فيه وكان يجيب بيقين العالم أن تلك الاتهامات ناتجة عن عقول دغمائية مغلقة وهي أحسن دليل على سلامة منهجه الفكري· ولم يكن محمد أركون بمنهجه العلمي المتعدد والمتجدد، ضحية التراثيين فقط، بل ظلمه حتى ''الحداثويون'' أسرى سياج دوغمائي من نوع لآخر عندما حاولوا تلخيصه في أنه لم يفعل إلا أنه قرأ فيه وحاول إسقاطه على التراث العربي الإسلامي الكبير· فقد كان مجتهدا، مدافعا عن اجتهاد يتجاوز اللحظات التاريخية السابقة التي تحولت إلى أصنام و''أصوليات مغلقة'' لا بسبب أصحابها بل بسبب أتباعها الذين يقرأون بعقل مستقيل اجتهادات أشخاص من عصور أخرى ومن سياقات ثقافية أخرى، وبدا أكثر من مرة مشمئزا من فكرة ''ضرورة فتح باب الاجتهاد'' كما ينادي البعض وهو يقول: ''يجب أن نستمر في الاجتهاد هذا ولكن اجتهاد على مستوى آخر، غير الاجتهاد الذي تعودنا عليه ولا نزال نكرر أن هناك اجتهاد ويجب أن نرجع للاجتهاد هذا كلام بعيد كل البعد عن إجهاد العقل''· ورغم أن الراحل محمد أركون تجاوز الثمانين من العمر، فقد كان يبدو بحيوية فكرية وجسدية لشاب في الثلاثينيات من عمره، فهو من مواليد سنة 1928 في بلدة تاوريرت نميمون بآث يني، ولاية تيزي وزو، البلدة التي ينسب إليها الكاتب الباحث الراحل مولود معمري، ليدرس في منطقة عين تموشنت بعدها ويواصل رحلته العلمية في الجامعة المركزية بالجزائر العاصمة قبل أن ينتسب إلى جامعة السوربون في باريس· ورغم منهجه العلمي الصارم وعدم إيمانه ب ''الأصنام'' الفكرية مهما كانت إلا أنه يبدو ''ضعيفا'' وهو يتحدث عن الكاتب والمفكر العربي الكلاسيكي أبو حيان التوحيدي، وربما يرجع ذلك إلى القواسم المشتركة الكبيرة التي جمعت الرجلين وأهمها الغربة التي عاني منها كل واحد· فقد كان التوحيدي يقول ما مفاده أن أغرب الغرباء من كانت غربته بين أهله، وكم كانت غربة أركون كبيرة في بلده الذي غادره مكرها وله فيه ذكريات سيئة جدا عندما كان يزوره في إطار ملتقيات الفكر الإسلامي وكان يناقش بطريقة لا تليق بمقامه·