كان عليها أن تحتمي بالسور حينا وتدس رأسها داخل معطفها الرمادي حينا آخر، كلما اشتد المطر. وما هي إلا دقائق حتى وصلت بوابة البستان فركنت إلى فنائها لتفاجأ بجمع من الشباب ذوي الوجوه المكفهرة العابسة، يدخنون في صمت ولا وقت لديهم ليمسحوا تلك المادة البيضاء المترسبة على جوانب شفاههم الظامئة.. كان من بينهم ''العمدوني'' وهو فتى يعلمه شيخ القرية فنون الفروسية ويستعين به في كل شيء. خفّ شعورها بالرهبة لرؤيته بينهم، وقبل أن تبادره بالكلام ارتفع صوت الأذان. قام الجميع من أماكنهم وقد بدا أنهم عازمون على الانصراف، فانتابها شعور بأنها عاشت هذا الحدث سابقا. راودتها أفكار متلاشية لبرهة وجيزة. نظرتْ في عيني ''العمدوني'' فأمال رأسه بخجل مقيت والْتفت نحو أحدهم وأعطاه بضعة سجائر. -سأذهب إلى الصلاة، من المستحسن أن تطمئن على الأكياس وبعدها اغلقِ الإسطبل. -لا تهتم سأقوم بالواجب. قال الشاب ذلك وهو يحشو أعداد السجائر في جيب جاكتته القذرة ووجهه ينمّ عن بلادة لا نظير لها. فكرت بأنه أكبر سنا وأقوى جسما من ''العمدوني'' الذي لا تبدو عليه ملامح الفارس كما هي في مخيلتها. لكن شيخ القرية بالتأكيد كان يرى عكس ذلك، فلطالما امتدحه وعلق عليه آمالا كبيرة، ربما تعويضا عن خيبته الشديدة في أبنائه. انصرف هؤلاء الشباب كل إلى حاله، بينما بقي ''العمدوني'' يفرز حزمة مفاتيح صدئة. فكرت بمواصلة السير لكن المطر ازداد شدة. التفتت إليه فاقترب.. ركزت نظرها في وجهه فأشعل سيجارة وحملق في الأرض. كان يضع على رأسه طاقية مبهرجة الألوان ويلتف بجاكتة سميكة بالية تعطي انطباعا بأنها تعيق الحركة أكثر مما تحمي من البرد. ويرتدي حذاء بلاستيكيا بلا جوارب وسروالا خشنا مبقعا يشي نسيجه المخرم عن أجزاء من ساقيه وفخذيه.. -هل تخشى المطر؟ سألته، فهز كتفيه النحيلين وقال: - لا أبدا، فلطالما مشيت تحته.. -إذا هل تستطيع أن تبقى لدقيقة واقفا وسط الطريق؟ - الآن...؟ لم تجبه، لكنها حركت رأسها بما يوحي أنها تتحداه. ولتعميق المشهد وضعت حقيبتها بين ركبتيها وضغطت عليها حتى لا تسقط، ثم شمرت على يمناها ومدتها إلى أبعد ما يكون وحجبت بيسراها عينيها وراحت تضحك وتطلق صيحات متغاوية، بينما قطرات المطر هي الأخرى تضحك.. تضحك وتسقط على كفيها وساعديها.. بدأ ''العمدوني'' يضحك أيضا.. يضحك كأنه يفعل ذلك لأول مرة.. وارتفعت تكبيرة الإمام في مسجد الزاوية ''الله أكبر''. سحبت يدها وارتشفت القطرات