أحب الأحذية ما استطعت إليها سبيلا وكذلك الناس، وكذلك الأدب، السينما، اللوحات التشكيلية، الناس فنون والفنون أحذية وموديلات وعصور، في حسن الهندام وحسن إتيانه يذكر الحذاء على أول المقام فمن حسن أناقة المرء شكل حذائه، استدارته وتربيعته، لونه ولمعانه، تفصيله المدبب أم المحدب، ثوريته وهدوئه الكلاسيكي، بالكاد الثورات البنيوية التي يعرفها عالمنا الحذائي تشبه الهجمات المعرفية والمدارس الأدبية والرؤوس المابعد تقدمية حتى الفكر الإعلامي العالمي الراهن اشتغل بالظاهرة الحذائية أيما انشغال، فهو كصناعة وكموضة وكتوجه ذوق لطالما صرف عليه واستثمر فيه وانتزع الحصص في الصحافة والملفات الاقتصادية الخاصة وفي البيبيوغرافيات الخاصة بصانعي الحذاء الكبار الأوائل.. يفرد الإعلام الفرنسي إشارات دائمة لحذاء الرئيس الفرنسي السيد ساركوزي وحرمه كارلا بروني، كما مشاهير الصورة الآخرين الذين يقطر لعابهم من أجل - Schow الشو- والمشهدية، في متحف الفن المعاصر بباريس يترامى الحذاء في كل زاوية وناحية كل ناظر عاكسا العالم حذائيا، وهاهي إحدى القنوات الفضائية تقدم روبورتاجا حول أحد الصناعيين في الأردن وهو يقدم موديلا جديدا لحذاء نسائي خارق للمألوف، متمرد، ثوري، ناكث الصلة بأحذية أزمنة مسابقات، حذاء غير نمطي بل نمطه وشكله شكل الكاليغراف العربي وانحناءاته، خطوطه ومنحنياته، رقائقه ورقته، رفيع أو سميك، جلدي من صنف البقر أو من صنف الغنم، صندل أو خف أو نعل من جلود الأفعى قد صنع وصممت هيئته، ولعل في الدلالة وضوح كامل الأوصاف عن المشهد الحذائي في عصر السيمولاكرات هذا، عصر الصنعة والشكل والرهافة، عصر رولان بارت وجاك دريدا، كما هو عصر أنجلينا جولي وأنطونيو بونديراس، وعصر نينا ريتشي وأحذية شارل جوردان. إن السؤال الفلسفي في الحذاء مثل السؤال الكوني المطروح على نحو ''لماذا خلق الله المرأة؟''، ''لماذا خلق الإنسان الحذاء؟'' إنه وقاية من الأذى، من جرح قد يصيب القدم، من دم قد يسيل أو ينسفح، أو يسبب غواية مؤجلة، أو ذوق عام يجب الحفاظ عليه، أو عمى موضوي ينبغي الاستجابة له والتنكب لمجاراته. قصة الحذاء هي قصة طويلة بالغة الطرفة، فلقد كان الكاتب الروسي الأسطوري ''ليو تولستوي'' يضع حذاءه على الطاولة ويتحدث معه بجدية قائلا في وجهه ''هيا، إن كنت ذكيا إمش من دوني''، فهي هكذا علاقة أزلية، جرحية، تؤلم، لها طباق الوجع والمكابدات، لها الأشواق والشهرات والمشاهير، لها القص والسرد والأسانيد، تاريخية هذا المخلوق الغريب، المثير، الأنيس المأنوس هي تاريخية أدب وسينما ومسرح وتاريخ سياسة وعسكرة وجيوستراتيجيا، لقد تغيرت خرائط العالم وجغرافياته عبر الحروب، أي عبر جزمات العساكر، ولقد راقبت الصحافة وقع الأحذية الخشنة، إذ هي تراقب اتجاه الديموقراطيات وبوصلة الحرية، والعالم كله يرزح تحت نير الأحذية، حذاء الإمبراطوريات، حذاء السندريلات، حذاء غريتاغاربو، حذاء إيفا غاردنر، حذاء الأسلاف، حذاء صدام حسين، حذاء بوش، حذاء مرتضى الزيدي الذي ألقم به الرئيس الأمريكي كما يلقم الشياطين بالحجر، وحذاء جدي، وحذاء ساركوزي وحذاء تولستوي الذي خابره هذا الكاتب الأشقراني ''إن كنت رجلا فلتغادر دوني''. الحذاء هو من فصيلة الموضات الصعبة في الاقتناء والمتابعة في تمرحلات إنجازه وتقليعاته المتغايرة مع مرور الزمن والبشر، إن فردة حذاء واحد تستدعي ورشة عمل مؤهلة، ومنجزين مهرة وخياطين وحائكي جلود ولصاقين رغم الفرادة التي لا يماري فيها أحد، تلك ميزة مثلا الآلة الألمانية المخصصة لحظوظ الإنتاج القصير أو المتوسط أو الطويل في فن الصناعة الحذائية إلا أن المعروف أيضا دون مماراة أو جدل بيزنطي، عالم الصباط هو عالم تام الامتياز ببراعة الطليان فيه فهم أسطورته وهم شياطينه وعباقرته وهم من حكم العالم من فردة حذاء، من خيط دخان ماكيناته ومن خيوطه وسحَّاباته ومن كعوبه ووحدها عوالم ''فالونتينو'' valentine، أو ''كافالي''cavalli، أو ''ريشيليو''، أو ''ألدو'' يجعل الحضارات مختلفة والثقافات مختلفة والشعوب على مذاهب وأهواء ونغمات مختلفة تتحرك على وقع طرقة حذاء وترقص على إيقاع الحذاء الأخير، لكن الطليان عقدوه، غيّروا دفته، غيّروا باطنه وغيّروا معه ريح العالم وبوصلته. إن أرستقراطيي فرنسا يحوزون على شعبية الكعب الطويل في حذائهم، فذاك يشي بالمقام الأرفع والسمو الطبقي الذي ينذر عند القوم، وإن ارتداء ما يعرف بالبلغة ذات النهج العربي، العثماني، التركي، المغربي يزين أصحابها بزينة الهوية مثلما يمنع عنهم الولوج إلى قصور النجوم ذوات الخمس والست والسبع، فالبلغة لا ترفع بالقوم إلى أعلى عليي البريستيج والبذخ. وقبل الخمسينيات بقليل طوّر طبيب من بافاريا يدعى كلاوس مارتينز حذاء جوديو المعروف وزوّده بقطعة تشبه الوسادة الهوائية، فتزيد من راحة اللابسين، هذا الحذاء الطبي المطور -الأورتوبيديكيhorthopidik -، أو الحذاء العسكري المضاف إليه قطع الحديد من الأمام وهو حذاء مخصص للطرقات ووصولا عند حكاية المقاسات والجنس والأعمار تعطي الصورة الأشمل عن المنظومة الحذائية العالمية التي تدعمت بالمعرفة والجامعة والخبرة التقنية والتكوين العالي كما بالرهيف والرفيع القادم من فلسفة الحداثة، فليس ثمة فقط حذاء واحد من جلد بل ثمة جلود تماسيح وضأن كما خيوط ورقاقات وحواشي، حذاء للسيد الإمبراطور المخاتل كما للسندريلا الصغيرة، وهي تتعثر من هودجها فلا ضرر في السقوط ولا انحراف قد يؤذيها، كما كانت السينما تحب أن تعرض علينا هذا الأدب الحذائي الجانح، اللاعب بالمخيلات. إن الشاعر الألماني غوته كان يقف برهبة وإجلال لأحذية حبيبته وعرف هوسه بالأحذية الراقية، المطربة الأنجلوفونية، ونجمة البوب ماريا كاري كانت دامغة التعشق بالأحذية، وهي لا تملك أقل من ستين زوج أحذية في ستة أشهر. وإن السيدة الأولى في الفلبين أميلدا ماركوس، تكون قد تركت ما يزيد عن ألف حذاء في قصر الرئاسة عندما فرت منه مع زوجها العام 1926م، وهي حالة فيتشزم خطيرة قد يصاب بها أي واحد منا، فمحبة الحذاء داء يستفحل في داخلنا بخفية، الحذاء صنعة جميلة مارسها الإمام الشافعي ولم يبرع فيها ميخائيل نعيمة وصورة عنها حاضرة في شخصية مولود الطباخ الثوري في فيلم معركة الجزائر وعلى وقع الأحذية الخشنة في الحروب أو على وقع الأحذية الناعمة في الحب كما حذاء السندريلا، يتحرك العالم، وهو العالم، إذ سيتحرك بشكل أفضل إن لمَّع الأدباء أحذيتهم كل صباح وحدثوها بأسرارهم كما كان يفعل جدنا الروسي تولستوي.