التونسيون لا يخافون الموت اليوم، فقد فتحوا صدورهم له، بل إنهم صاروا يمارسونه كنوع من التعبير عن الاحتجاج. الأخبار الواردة من هناك تفيد أن علاء الحيدوري (32 عاما) وهو خريج جامعة وعاطل عن العمل، تسلق مساء الإثنين عمود كهرباء وأسلم جسده المنهك ل 3000 فولط، أنهت حياته بالكامل في إحدى قرى ولاية سيدي بوزيد، بالوسط الغربي التونسي، على مرأى من جماهير غاضبة خرجت للمطالبة بحد أدنى من الحياة الكريمة. لقد انتحر علاء مستخدما كوابل الضغط العالي هروبا من كوابل الضغط الاجتماعي التي جعلته يتأرجح معذبا بين الحياة والموت، فاختار الموت ليدرك حريته الأسمى. إنها خامس حالة انتحار منذ 71 ديسمبر الماضي، تاريخ إقدام الشاب محمد البوعزيزي (62 عاما) على الاحتجاج بالانتحار حرقا، كان يعمل بائعا متجولا، وكان يتعرّض للمضايقات، لمجرد أنه لا يملك ترخيصا. و... جاء البوليس ليصادر بضاعته، فقرر أن يكتب رسالة تاريخية بطريقة تلهب الشارع التونسي. لقد مات ليبث سر الحياة في قلوب المقهورين من سكان سيدي بوزيد، وهكذا بدأ الغضب على وقع ''إرادة الحياة'' للعظيم أبي القاسم الشابي. مساء الثلاثاء الماضي تجددت الاحتجاجات في منطقتي (التضامن) و(الانطلاقة) في العاصمة التونسية، في وقت كانت فيه السلطات الرسمية تعلن عن مقتل أربعة متظاهرين بالرصاص في صدامات حدثت بمدينة القصرين التي تقع على بعد 092 كلم جنوبي العاصمة التونسية. ليل الثلاثاء إلى الأربعاء بلغ الاحتجاج أشده وبلغ القلق أقصى درجاته. التونسيات والتونسيون خرجوا جميعا ليعلنوا رفضهم تحمل هذا الفصل الدامي من ممارسات حكومة ''بن علي'' العنيفة. التلاميذ والأساتذة، المحامون والقضاة، التجار والفلاحون، الصحفيون والفنانون، عمال الصحة، المثقفون... كلهم على قلب واحد، بعدما كسروا حاجز الخوف وداسوا بأقدامهم أسطورة القبضة الأمنية التي كانت تراهن عليها عائلة الطرابلسية. إنهم مستعدون أن يموتوا دفاعا عن كرامة بلدهم. لقد هان كل شيء أمام أعينهم ولم تهن شعرة واحدة من رأس تونس العظيمة. أمس الأربعاء، قام الرئيس ''بن علي'' بإقالة وزير الداخلية وتعيين وزير جديد، وأمر بإطلاق سراح جميع المعتقلين خلال الاحتجاجات والتحقيق في قضايا الفساد... صحه النوم سيد ''بن علي''، ومرحبا بالوزير الجديد. ومن يليه من الوزراء.. مرحبا بالتحقيقات... وبكل الإجراءات والقرارات والبرامج المزمع تنفيذها لتطييب الخواطر. لكن السؤال: ماذا ينفع التونسيين أن يتغير الوزير أو يبقى؟ وماذا ينفع تونس أن يفرج عن بعض المعتقلين في السجون ظلما، فيما تونس بكاملها تطالب بالإفراج عنها من حكم بوليسي انتهت صلاحيته تماما؟. مثلما امتلك التونسيون الشجاعة لمواجهة الموت فعليا ليكونوا رمزا بليغا للحياة بكرامة. على النظام التونسي أن يمتلك الشجاعة ليعلن أنه ميت رمزيا، منذ زمن طويل، وعليه الآن أن يبادر بترسيم موته فعليا ويذهب إلى قبره بسلام..