لما طلب مني الصديق احميدة عياشي الإسهام في هذا الملف، عادت بي الذاكرة إلى الوراء خاصة بعد الإنجاز التاريخي للشعب التونسي الشقيق. لقد دشن الشعب التونسي مرحلة جديدة بكل المعايير في الفكر العربي المعاصر مما يجيز الحديث عن الفكر العربي المعاصر بعد ثورة تونس. ولأن التعميم مضر منهجيا وعلميا، سأتوقف عند حدود جيلي الذي نشأ وترعرع وكبر في ظل مرجعية شكلت إطار فكريا وأيديولوجيا وأداة لرؤيته للعالم كنا نراها مرجعية كاملة شاملة جامعة. كان أحد مكوناتها كتابي ''لينين ما العمل''، و''الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية''، وبعض النتف من رأس المال. كان الكثير منا يحفظ مقاطع كاملة منهما. كنا نحن القادمون من عمق الريف الجزائري نناقش، وبالتفاصيل المملة، صراع الاشتراكيين الديمقراطيين مع لينين، كنا نحفظ أسماءهم، ''واحد واحد''، كنا ننبهر بتعليق لروزا الكسبورغ على لينين، وكنا ننتشي برد لينين عليها كما كنا على دراية كاملة بكل السجالات الأخرى: كاوتسكي وبليخانوف تروتسكي، كما كنا نحفظ عن ظهر قلب وصايا ستالين الأربعة عن المسألة القومية التي كشفت للكثيرين منا أن العرب ليسوا أمة، هكذا ببساطة، لأن وصايا ستالين تقول ذلك. ورغم ذلك كنا نعد أنفسنا مثقفين وملمين بقضايا عصرنا ونملك الإجابة على كل الأسئلة المطروحة. هل فعلا كنا كذلك؟ ربما لازال البعض يظن ذلك ومن حقه ذلك. أما أنا، وبعد ثورة تونس، لقد تكشف لي شيئا آخر، لقد كنا نعرف الآخر الخارجي وبشكل مشوّه، وهذا حديث آخر، لكن في هذه العجالة أتساءل لماذا جيلي انتصر للينين وأشاح بوجهه عن كل المفكرين الروس وعلى رأسهم الديمقراطيين الاشتراكيين الذين ركزوا على أهمية المسألة الديمقراطية. لماذا أشحنا بوجوهنا عن جميع المفكرين الألمان الذين بينوا مغالطات لينين. لماذا انتصرنا لهذا المغامر الذي قال عنه أحد المفكرين الروس إذا نجح لينين فهذا دليل على فساد الماركسية. لا أملك إجابة، إنها مجرد تساؤلات وأعود إلى موضوعي، قلت كنا نعرف الآخر الخارجي بشكل مشوّه، أما الآخر الداخلي فكنا نجهله جهلا تاما وفي أحسن الأحوال نصفه ونعرفه بمفردات غير مطابقة. كنا نرفض ما لا نملك وندافع على ما لا نملك، نتحدث عن الإقطاع والإقطاعيين في مجتمعات رعوية نندد بالرأسمالية في مجتمعات زراعية ندافع عن الطبقة العاملة في مجتمعات ما قبل حداثة. أليس هذا وعيا زائفا في أرقى أشكاله وألوانه. واليوم بعد ثورة الشقيقة تونس التي يجب أن تصوب وعينا التاريخي والحضاري. لقد كشفت هذه الثورة من ضمن ما كشفت عورة المثقفين، وهذا حديث يطول شرحه، لكنها كشفت أن هناك كتابا غائبا يجب تأليفه. إذن، إرادة النخب في الوطن العربي هو تصحيح وعيها الزائف وتكفر عن ذنبها وتستر عورتها، يجب أن تشترك في تأليف كتاب بفصوله وأبوابه ومباحثه تحت عنوان ''الاستبداد أعلى مراحل اللاوطنية''، لأنه يتعذر أن يكون الحاكم وطنيا ومستبدا في آن واحد، بل لا يكون الحاكم مستبدا إلا إذا قطع الصلة بشكل كامل ونهائي مع كل القيم والوطنية. من هنا يبدأ التحليل العلمي للاستبداد وليس الصراخ الأيديولوجي