سمعنا منشطة بقناة الجزيرة تختم نقاشا عن أحداث تونس قائلة: ''لقد داهمنا الوقت، والخلاصة أن ما وقع في تونس يعتبر بحق ثورة ويكيليكس''.. وقبل أن ينبس أحد من الحاضرين بكلمة، دوى صوت الجنريك، كما يسدل الستار على خشبة المسرح لينهي الفصل. ولا تقصد المنشطة، بطبيعة الحال، إعطاء رأيها الشخصي، أو التعليق، كما اتفق، لملء فراغ كان يمكن أن يعوضه أي فاصل إشهاري، ولكنها تقصد أنها تعطينا الحقيقة الوحيدة التي لا تنازع: لولا تسريبات ويكيليكس لما عرف التونسيون أنهم يعيشون تحت وطأة نظام فاسد مرتشٍ، وظالم مستبد. يعني أن التونسيين لم يكونوا على علم بالتعسف والإضطهاد الذي مارسه زين العابدين بن علي لثلاث وعشرين سنة، واعتمد في ذلك على البوليس والسجون والنار والحديد. ولم يكن التونسيون يعرفون من تكون ليلى الطرابلسي، ولا كيف تدرجت من صالون الحلاقة بأحد أحياء تونس إلى أن تصبح سيدة قرطاج، وأن عائلتها عاثت في البلاد نهبا وسرقة واحتيالا ومحسوبية ورشوة بطريقة بشعة.. ألا إنه سب لذكاء التونسيين وذاكرتهم أن يقال لهم إن ويكيليكس هو قائد ثورتهم، لأنه أول من اكتشف في بلادهم منطق الفساد والاستبداد. وهو أيضا احتقار، من هذه المنشطة، لكل الذكاء الإنساني، وهو أخيرا وقاحة منها أن تصادر آراء المناقشين والمحللين. وشبيه بهذا الكلام أن يقال: إن الأنترنت هي ذلك الحزب الافتراضي الذي نظم التونسيين ووجه الثورة، ومن هنا فلا فضل للأحزاب والنخب المثقفة والنقابات، ولا لتضحياتهم في السجون والمنافي منذ أكثر من خمسين سنة. وهكذا تتحوّل الوسيلة، الواسطة، إلى المحرك الرئيسي. على طريقة من يقول، اليوم، إن مجيء الأنترنت أعلن نهاية الكتاب، وكما قيل: إن الطائرة أعلنت نهاية القطار. واكتشف بعض الجزائريين أن وسائل الاتصال الحديثة، وبخاصة الشبكات الاجتماعية، هي وسيلتنا الحديثة إلى التغيير، والأفضل أن نستثمر في الفايس بوك بدل تأسيس الأحزاب السياسية والنضال على الطريقة التقليدية، كما فعل أسلافنا في الحركة الوطنية. إن وسائل الاتصال الحديثة تفتح أمامنا آفاق واسعة لتطوير أنظمة النضال السياسي، وليست مجرد وسائط لحمل الأفكار. إنها التعبير ذاته وإنها الغاية في ذاتها، إلى درجة أنها تستطيع التفكير في مكاننا. من الأفضل مثلا أن نرمي بأي كلام عن مستقبل الجزائر في شبكات الفايس بوك والتويتر، حتى دون أن نعلن عن أسمائنا الحقيقية، وأن نتعامل مع أصدقائنا في الشبكة، حتى وإن كنا لا نعرفهم. فإذا بالكلام يتحوّل، بقدرة قادر إلى فكر، وإلى أيديولوجيا. هذا أفضل من مواجهة وزارة الداخلية وقانون حالة الطوارئ وفرق مكافحة الشغب. وجاء من أعلن عن نهاية المثقف الكلاسيكي الذي يكتفي بقراءة الكتب ويلتزم باستعمال الورقة والقلم في الكتابة.. يعني أن تكسر القلم لتعوضه بلوحة مفاتيح الكمبيوتر، وأن تداوم على نقاشات أشباح الفايس بوك، وأن تلغي الرصيد الفكري والأيديولوجي لما أنتجته أجيال وأجيال وأجيال من رجالات الفكر والسياسة والأدب، لتكون مثقفا عصريا يتماشى مع التطور والعصرنة.