أبرزت الاحتجاجات الأخيرة في الجزائر غياب ثلاثة نشطاء، وهم السياسي والمثقف ورجل الدين·· فإذا ما بدا بعض المثقفين غير مبالين بما يجري، فإن بعضهم الآخر بقي في حالة المتفرج، أما السياسيون، فقد غابوا تماما إن لم نقل بأن الأحداث قد فاجأتهم، ولم يكن رجل الدين بأحسن من السابقين·· لكن حركية الحركة الاحتجاجية في تونس، أرجعت لهم الأمل في إمكانية حدوثها في الجزائر وشجعت المنتفعين لركوب الموجة ومحاولة الالتفاف على مجريات الأحداث التي قد تمكنهم من تحقيق ذلك الحلم·· وهكذا تخلف المثقفون الذين ربما سيلتحقون فيما بعد وخاصة منهم من يمثلون اتحادات المثقفين، وركب السياسيون الذين لم يفطنوا من الصدمة بعد، وبدأوا بإصدار البيانات والدعوات للخروج والتحرك دون تحضير أو تمكين·· في الوقت الذي كانوا فيه غائبون عن أية مبادرات أثناء انتفاضة الشباب واعتنقوا مبدأ ''كل من ركبها فمصلحته آمنه ومستقبله مضمون''، اعتقادا منهم أنها الفرصة السانحة·· وكلنا يعرف أن الفرصة الحق حتى تؤتي ثمارها، يجب أن تهيأ ولا تقتنص·· لا أحد منا يستطيع القول بأن حرية الحركة للأحزاب أو للمجتمع المدني كانت سهلة، أو مساعدة على التنظيم والتنشيط في ظل حالة الطوارئ، لكن ما يعرف عن التونسيين الذين نريد الآن أن نقتنص تجربهم، أنهم كانوا في حالة أكثر من حالة الطوارئ، فإذا كنا نحن لا نستطيع التجمهر والتظاهر، فهم لم يكونوا يستطيعون حتى محاكاة أنفسهم أو مساراتها خوفا من تفشي الخبر··؟ أما رجل الدين، فقد أثبت عبر التاريخ ارتباطه بالبلاط وبسياسة البلاط، إلا من رحم ربك·· فهو يفتي لإجازة سياسة الدول كيفما كانت، أو يفتي للتطرف وتكفير الناس ورميهم بكل صفات الانحلال والتغريب، ودليلنا على ذلك شيخنا ''القرضاوي'' الذي يستفيد من كل الدول التي توفر له الراحة والجاه، لكنه يدعو لانتفاضة الشعوب عندما تأخذ زمامها بيدها بعد انطلاقتها، ناسيا بأنه لن يستطيع أن يكون صادقا وعادلا فيما يقول، وهو الذي لم يكن صادقا حتى مع أسرته، ولا حتى في ممارساته الشخصية والسرية·· فهل مازال يعتقد أن الناس سيصدقونه، وهم يفقهون فتاواه ونصائحه البلاطية التي يقدمها عبر قناة الجزيرة، ألن يقارنوا بين ما يقول وبين ما يفعل، وبين ما يصرح به في كل وضع ولكل نظام، وبين ما يطلبه الآن من التونسيين·· وهل فقه شيخنا بأن مطالبته للتونسيين بالاستمرار في الاحتجاج مفيد لهم أم أن ذلك مفيد لأفكاره ولمناصريه المتعصبين··؟ لقد كان نداء الشيخ الذي وجهه الأسبوع الماضي عبر قناة الجزيرة للجماهير التونسية، محثا إياهم على ما أسماه ''اجتثاث نظام بن علي''، غريبا جدا، فمن تابعه سيدرك لا محالة، بأنه ينطق بالتحريض على الفوضى حتى وإن اتفقنا على ضرورة تخلي هؤلاء عن الحكم، لكننا لن نستطيع أبدا أن نكون بدل التونسيين في الإطاحة بحكومة الغنوشي، فأهل مكة أدرى بشعابها·· إن إصراره بمطالبة التونسيين بالبقاء في الشارع إلى غاية الإطاحة بكل وزراء بن علي''·· لم يسبق له وأن نطق به تجاه أي نظام بما فيه نظام بلده·· ألم يسأل وهو المصلح الإسلامي إن كان ذلك الطلب في صالح المحتجين أم لا·· أم أنه يفعل ذلك لإثارة الفوضى بشكل يهيئ الفرصة لمن سيركبها من المجاهدين المرابطين المتأخرين أصلا عن الأحداث، ليقارب فتواه تلك التي أفتى بها ذات يوم للذابحين في الجزائر ''كي يرابطوا فهم مجاهدون ومرابطون صادقون··''·· في الوقت الذي يسكت صوته عن النقد البسيط في بلدان أخرى ومنها مصر وبلدان الخليج نفسها التي لا تتعرّض فيها الجزيرة لها إلا بالجيد والطيب وكأنها جنة الخالق في أرضه، أو كأن أهلها ليسوا بشرا بل هم أنبياء لا يخطئون·· وحتى وإن نسي السيد القرضاوي فتواه تلك، فإن ضحايا الإرهابيين الذين دعمهم في الجزائر لن ينسوا·· والتاريخ لن ينسى·· والذين أجهضت أحلامهم بإجهاض انتفاضة 5 أكتوبر 1988 في الجزائر، الانتفاضة الأولى من نوعها ضد الفساد والديكتاتورية في العالم العربي، لن ينسوا·· والشعب الجزائري الذي قوضت أحلامه ودمرت مكاسبه أبدا لن ينسى··؟؟ راكبوا الأمواج كثيرون، لكن مع الأسف، المثقف الجزائري هو الإنسان الوحيد في بلادنا الذي لا يعرف كيف يركبها، فإما هو مصفق للسلطة دون تحفظ، أو هو متفرج غير مبالٍ، أو ملتحق بالركب بعد إقلاعه ناسيا أو متناسيا دوره الحقيقي·· رغم أنه يعلم بأن التاريخ قد علمنا بأن الثورات التي لا يكون في طليعتها المثقفون ستجهض ولن تستقيم لأن دور المثقف هو ريادة الجماهير بما أعطي من فكر وقدرة على التمييز والتحليل والإدراك·· وقبوله بالبقاء وراء الجماهير وليس أمامها·· هو ما يلقي به بعيدا عن عملية التغيير وهذه هي معضلة الجزائر دائما، لكنها تبقى أيضا معضلة مثقفي كل العرب حتى وإن خرجت عنها التجربة التونسية··؟ تكلمت سابقا عن شرعية القاعدة الديموقراطية في بلادنا، ولماذا لم تستطع أن تبني قاعدة مشتركة يقتنع بها الجميع، وتجعلهم قادرين على الدفاع عن مطالب تشترك فيها كل الأطياف السياسية والاجتماعية، لكنني نسيت أن أذكر أن القاعدة الديموقراطية لن تستطيع أن تكون فاعلة ومعبرة عن طموحات الجماهير إذا لم تقدها الطليعة، والطليعة هنا هي ''المثقفون والشباب''، وعندنا هناك قطيعة بين الإثنين، ولذلك لن تكون هناك أبدا حركة ديموقراطية شاملة في مجتمعنا، حتى لو أردنا، وحتى لو استفدنا من تجارب أكتوبر إن كانت جزائرية أو تونسية··