أغلب ظني أن ما يجري اليوم في ليبيا الشقيقة يمكن أن يكون جرعة من مصل يزيد مناعة الشعب الليبي لرفض كل أنواع حكم الفرد ويضاعف من حصانته للتمسك بأن يحكم حكما ديمقراطيا تكون السيادة فيه للشعب، وتكون حرية الإرادة والفكر والتعبير حقا مقدسا لكل مواطن لا يتعدى عليها أحد ولا يصادرها أحد· وفي ظني أن أي شعب مهما كان حظه من التقدم والنضج يمكن أن يتعرّض في مرحلة من مراحل تاريخه لتجربة تسلب فيها الحرية باسم الحرية وتغيب فيها الديمقراطية باسم الديمقراطية وتكتب فيها إرادة الشعب باسم إرادة الشعب، وهذا هو الذي يحدث للشعب الليبي في هذه المرحلة من مراحل تاريخه، لكنه سيفيق بعد هذه الكارثة التي يعيشها ويخرج لبناء بلده من جديد في ظل ديمقراطية حقيقية تجعل منه خلال سنوات معدودة إحدى القوى الاقتصادية والصناعية الكبرى في منطقة المغرب العربي، مع أنني أعلم بأن الكثير تحت ضغط الحملات الإعلامية المكثفة والموجهة قد أوشكوا أن يفقدوا الأمل في جدوى الإصلاح بالديمقراطية، وراح البعض من هؤلاء يمد بصره إلى الماضي السحيق أو الغرب البعيد باحثا عن وصفة تحقق آمال الشعب الليبي وتوقف تيار التدهور والتخلف الذي انحدر إليه يوما بعد يوم، لكنني أقول مازلت على ثقة بأن الأمر لا يحتاج إلى بعث تجارب الماضي أو التعلق بأفكار لا تصلح أكثر من مادة للجدل النظري، فإذا ما وضعت موضع التطبيق الفعلي تهاوت أمام واقع الحياة وواقع التطور مع أن الأمر في رأيي لا يحتاج لأكثر من شيء من المنطق يقود الشعب الليبي إلى حوار وتشاور شامل وعقلاني يصل في النهاية إلى وضع أساس متين وواقعي يقوم عليه بناء ثابت ومستقر بعد أن غاب المنطق طويلا وغابت معه الحقيقة، هذا من جهة· ومن جهة ثانية، فإن من وجهة نظر التحليل الاستراتيجي لخلفية المرحلة الصعبة التي تمر بها ليبيا هذه الأيام وتداعياتها المختلفة، تظهر جملة من المعطيات البنيوية المهمة لبلورة تطورات الأحداث الراهنة وآفاقها المستقبلية داخل الساحة الليبية· هل هذه المرحلة هي مجرد ضجة قامت وستنتهي؟ أم أنها ستشكل نهاية فعلية للاستقرار السياسي النسبي الذي عرفته ليبيا منذ استقلالها؟ وما طبيعة وحجم المخاطر التي قد تهدد البلاد في المستقبل المنظور؟ وهل هي مشاكل سياسية وتواصلية، يعني أزمة ثقة تعرقل المسار الديمقراطي؟ هل هي مشاكل اجتماعية واقتصادية تعثر خطة الإصلاحات الافتراضية؟ يعني فشل برامج مكافحة الفقر واتساع دائرة التهميش واستفحال البطالة وتراكم الإحباط والتوتر وتنامي الاضطرابات المجتمعة؟ هذا في وقت كان المفروض فيه أن يبقى الأفق مفتوحا ودعوة المواطنين إلى التفكير جديا في السبل الكفيلة بصيانة وتعزيز الاستقرار في البلاد كمسؤولية جماعية وإتاحة الفرصة للتفكير من طرف الجميع في الطرق التي تمكن من المحافظة على استتاب الأمن والاستقرار، وهو لا يمكن أن يتحقق إلا بوعي المواطنين لمخاطر العصر، يعني مخاطر المرحلة، هذا في مرحلة كانت فيه ليبيا محتاجة إلى صياغة مرتكزات وبلورة معالم وتأملات صادرة عن تجربة تمثل تنظيرا وتقييما في هذه المرحلة الحرجة بالذات، تكشف عن الحقائق الدامغة المبنية على أساس ووقائع وأدلة وقرائن غير قابلة للشك، حقائق تأتي نتيجة لتحريات وتحقيقات جادة وموثقة يشرف عليها أشخاص يوثق فيهم ويتمتعون بالأهلية الأخلاقية والمعرفية والمهنية الضرورية لحسن آداء واجباتهم ويقدرون أهمية وحساسية عملهم وما يترتب عليه من نتائج وعواقب خطيرة على واقع ومستقبل البلاد· وأمام هذه التعقيدات وهذه الأوضاع الخطيرة التي تمر بها البلاد، وفي ظل تشابك وتفاعل الأحداث الخطيرة وتداعيتها المختلفة على الساحة الليبية، وبالنظر لصعوبة الخروج بحلول جاهزة لهذه الأوضاع، لا يزال الاعتقاد بأن عمق الهزة التي تتعرّض لها ليبيا في هذه الأيام، ربما ستسهم إيجابيا في دفع أبناء ليبيا المخلصين إلى إعادة ترتيب البيت، وعلى رأسها إعادة ترتيب أولويات السياسة الداخلية والخارجية ليتم بعد ذلك التركيز على القضايا التالية باعتبارها مقيدة لمصلحة وأمن واستقرار وتنمية البلاد· فتح مشاورات جدية من أجل وضع تصور أولي لإنجاز الدراسات العميقة والمتخصصة لمشروع إصلاحي وحضاري شامل يعالج مختلف القضايا الحيوية في المجتمع والدولة خاصة النواحي الدستورية والمؤسسية والسياسية والمدنية والقطاعات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية، ومع تدعيم هذا التصور الأولي بفترة زمنية محددة للتنفيذ على أن يتم تبنيه في إطار البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية المقبل، ويلتزم بتطبيقه باعتباره أساسا لمعالم السياسة الرسمية لحكومة ما بعد الانتخابات· العمل جديا على تحضير الانتخبات الرئاسية والسعي لتوفير شروطها السياسية المختلفة كالانفتاح وتعميق الصلة وفتح باب المشاركة السياسية والمهنية أمام الاتجاهات الإصلاحية وتشجيع التواصل وبناء الثقة بين مختلف الأجيال داخل المجتمع الليبي، وبناء جسور حقيقية وجادة للحوار الديمقراطي مع مختلف الفاعلين السياسيين في الساحة بتبني مبادرة إعادة تشكيل وبناء الخطاب السياسي الوطني المتعالي على ازدواجية السلطة والمعارضة على أسس جديدة وجدية تتركز حول مصلحة وأمن واستقرار وتنمية الجماهيرية الليبية في إطار المبادئ الإسلامية· إنشاء لجنة وطنية تتألف من شخصيات ليبية عالية الأخلاق والخبرة والموضوعية ويشترك فيها مدنيون وعسكريون، بالإضافة إلى بعض الأعضاء من ذوي الخبرة السابقين الذين لم يتورطوا في قضايا تمس بليبيا والمواطنين الليبيين على أن تتحمّل هذه اللجنة مسؤولياتها وتتخذ القرارات الصحيحة والمفيدة لمصلحة أمن ليبيا من طرف رئيس جمهورية منتخب بعد ذلك· إصلاح قطاع الإعلام وإعادة تنظيمية بما يتماشى مع وضع دولة ليبية ديمقراطية تعددية ترجع السيادة فيها للشعب والولاء لمؤسسات الدولة الليبية، ويطبق فيها القانون والنظام بمساواة وعدالة على أن يتم هذا الإصلاح في إطار إنشاء مجلس أعلى للإعلام كمؤسسة جمهورية كاملة الصلاحيات تمارس وظيفتها كسلطة للتنظيم وفتح الإعلام أمام المبادرات الخاصة لحرية إقامة واستغلال مؤسسات إعلامية سمعية بصرية خصوصية وضمان احترام اختياراتها ومواقفها واستقلالية شؤونها· العمل على تفعيل وتطوير جدي للبرامج في إطار الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفقر والبطالة بما يضمن إيجاد وتطوير ثقافة الديمقراطية بين الليبيين وإيجاد برامج وأفكار محددة بدل من ثقافة التملق والولاء الخادع للأشخاص وللكيانات الضيقة وإعادة تكوين القائمين على المرافق العمومية وفق ثقافة الديمقراطية واحترام حقوق ومصالح المواطنين· إعادة تنشيط السياسة الخارجية من خلال بلورة استراتيجية ليبية لسياسة خارجية واضحة المعالم تقوم على أساس السعي نحو تحقيق مصلحة وأمن واستقرار وتنمية البلاد بأسلوب حواري واضح المعالم والأسس، وكذا تطوير وعصرنة المؤسسات المختصة والآليات المتبعة لاتخاذ القرار السياسي في حقل السياسة الخارجية بما يمكن من الوصول إلى الأهداف المرسومة والحصول على النتائج المتوخاة بنجاعة ومهنية الأداء· وفي الأخير، أقول بأنني أطرح هذه الأفكار بناء على الواجب الإسلامي والعربي المفروض عليّ ووفاءً للشعب الليبي الشقيق مما يئن تحته من صنوف المعاناة ومن الرغبة الصادقة في الوفاء بمسؤوليتي تجاه المجتمع الليبي الشقيق، ومن حرصي الشديد على أداء أمانة البلاغ والإصلاح والبناء سعيا من أجل إقامة حياة أفضل تقوم على الفضيلة وتتطهر من الرذيلة يحل فيها التعاون بدل التناكر والتنافر والإيخاء مكان العداوة، حياة يسودها التعاون والسلام بدلا من الصراع والاختلاف، حياة يتنفس فيها المواطن الليبي معاني الحرية والمساواة والرخاء والعزة والكرامة بدل أن يختنق تحت ضغوط الأزمات المختلفة والمشاكل المتشابكة والعاناة المتفاقمة·