عندما فارقت الكاتبة الفرنسية، سيمون دي بوفوار، الحياة سنة 1986، قالت إليزابيث بادنتر مقولتها الشهيرة: ''يا نساء العالم، أنتن مدينات بكل شيء لسيمون''. وبالفعل، أثرت رفيقة درب جان بول سارتر طيلة 50 سنة بشكل كبير في تشكيل وعي ثقافي جديد بقضية المرأة. ولدت سيمون دي بوفوار بباريس يوم 9 جانفي سنة 1908، من أم كاثوليكية وأب ينتمي لطبقة النبلاء. ومثل رفيق دربها جان بول سارتر ترددت على الأوساط الدينية والطقوس الصوفية، وهي في عمر مبكر. لكنها سرعان ما انسلخت عن هذه الأجواء وولجت عالم الفلسفة، بعد أن سكنها هاجس الحرية، حرية المرأة والإنسان بصفة عامة. لقد تحدثت في كتابها ''قوّة الأشياء'' عن رغبتها في إبراز ومساءلة الوضعية النسوية، حيث كتبت: ''رغبة مني في الحديث عن نفسي، أرى أنه ينبغي لي وصف الوضعية النسائية''. في صيف سنة ,1929 تعرّفت سيمون على سارتر، وأصبح كلا الاسمين الأكثر حضوراً بين طلاب الفلسفة اللامعين في ''الايكول نورمال''. وكانت نزهاتهما ونقاشاتهما في حديقة اللوكسمبرغ في باريس، حيث مقهى كافيه دو فلور، ظاهرة لافتة للانتباه. كان سارتر أكبر من سيمون بثلاثة أعوام. كان حينها صاحب سمعة سيئة، بسبب بذاءاته وكتاباته الرافضة للامتثال. وقد وصف سارتر سيمون بأنها: ''تجمع بين ذكاء الرجل وحساسية المرأة''. بعد عدة أشهر، أبدى سارتر رغبته في الزواج من سيمون، لكنها ذكرته أنه وصف الزواج ب''مؤسسة برجوازية حقيرة''، وقدمت له عرضاً رومانسياً: إنهما سيوقعان عقداً لمدة عامين قابل للتجديد. وهكذا بدأت واحدة من أكثر العلاقات إثارة للحيرة في تاريخ الأدب. ارتباط سيمون دي بوفوار بسارتر، اعتبرته بمثابة ''الحدث الرئيسي في وجودها''. وسوف تكتب عن هذه العلاقة لاحقا في كتابها الشهير ''وداعا سارتر'': ''الحقيقة أنني كنت منفصلة عن سارتر بالقدر الذي كنت ألتحم فيه مع هذه الشخصية.. كانت علاقتنا جدلية. أحياناً كنت أشعر بأنني على مسافة لا معقولة منه، وفي أحيان أخرى كنت أشعر كأنني النصف الذي يكمل النصف الآخر. أخذت منه وأخذ مني، وبالتأكيد لم أكن تابعة له''. سارتر هو الذي سيقدم لها لاحقا الفكرة الأساسية لكتابها ''الجنس الثاني''، التي تمحورت حول الوجودية وفكرة التضاد ما بين النفس المتسيدة (الرجل) والأخرى الخاضعة (المرأة) التي تعاني ضعف قوتها البدنية وواجبات الأمومة. طغى على المشهد الثقافي الفرنسي آنذاك، تيار الفلسفة الوجودية، بتأثير من الفلسفة الألمانية. والوجودية كانت عبارة عن فلسفة متمردة على واقعها وميراثها الوطني، عاكسة في مرآتها واقع الفكر والثقافة الفرنسيين لفترة ما بعد الحرب. وأصبح سارتر، الثائر على البرغسونية، وريث الوجودية الألمانية وممثّلها الأبرز في فرنسا، بعد التأثير الذي مارسه عليه فيلسوفين ألمانيين هما هوسرل وهيدغر. لقد عكست الفلسفة الوجودية مرحلة اليأس الذي ترافق مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن الذي ما لبث أن خلف مكانه سريعا لحالة من التمرّد والثورة. هكذا ابتدأت هذه الفلسفة بمفردات اليأس وانتهت بمفردات التمرد والمقاومة والحرية، مثلما نقرأ في رواية ''المثقفون'' التي نشرتها سيمون دي بوفوار سنة .1954 ''الجنس الثاني''.. إنجيل النساء المتحررات نشرت سيمون سنة 1949 كتاب ''الجنس الثاني''، وهو أشهر مؤلفاتها، بحيث تحوّل إلى إنجيل مؤسس للحركة النسوية عبر العالم. رأت دي بوفوار في كتابها أن الرجل يمارس على المرأة سطوة عاطفية، وذلك ما جعلها تعاني من اضطهاد بارز، لأنها في النهاية قبِلت بتحوّل الرجل من إنسان واقعي إلى رمز شبيه بالآلهة. وتعتقد دي بوفوار أن الإنسان ''لا يولد امرأة بل يصبح كذلك''. ولا يوجد -حسبها- ''قدر بيولوجي أو نفسي أو اقتصادي يقضي بتحديد شخصية المرء كأنثى في المجتمع. فالأنثى تحوّل إلى امرأة ضمن واقع ذكوري متسلّط تشكّلت شخصيته انطلاقا من مفهوم السلطة التي وضعت ملامحها وحدودها السلطة الاقتصادية عبر العصور والحضارة في أبجديتها، وهي التي تصنع هذا المخلوق الذي يقف في موقع متوسط بين الذكر ويوصف بأنه مؤنث، وأن الآخر (الرجل) أساس جوهري في صياغة الذات الأنثوية والإنسانية بكاملها''. أثار الكتاب جدلا كبيرا، وانقسمت النخبة المثقفة في فرنسا إلى مؤيد ورافض ومشكك. وعن الكتاب قالت سيمون دي بوفوار: ''تعرّضت للهجوم خصوصاً بسبب فصل الأمومة. وصرح رجال كثيرون بأنه لم يكن يحق لي التحدث عن النساء لكوني لم أنجب أولاداً، ترى، هل أنجبوا هم؟ إنهم يعارضونني بأفكار ليست حاسمة ولا قطعية، أتراني قد رفضت كل قيمة لشعور الأمومة والحب؟ كلا، لقد طلبت من المرأة أن تعايش هاتين القيمتين وبشكل حرّ. في حين أنهما غالباً ما يخدمانها كحجة، وأنها تخضع لهما إلى درجة أن الخضوع يبقى، إذ يكون القلب قد جف''. وتساءلت سيمون في كتابها: ''من هي المرأة؟'' لتحدد هويتها التي وجدتها هوية مُستلبة، من اختلاق الرجل وحده. واستنتجت أن تحرر المرأة مرتبط بمدى استعدادها وقدرتها على تغيير الصورة التي ينظر بها الرجل إليها ولخصائصها الجسدية والنفسية. كما عولت على تحرر المرأة من الموروث الثقافي الذي يشكل سلبا حيواتها اللاواعية. وهذا الدور تحققه حتى سيمون، تلك المرأة الكاتبة التي تملك ناصية اللغة لتبليغ المشاعر والأحاسيس للآخر الذي تمثل المرأة في عُرفه الجنس الآخر''، فالأنثى تُحوّل إلى امرأة ضمن واقع ذكوري متسلّط تشكّلت شخصيته انطلاقا من مفهوم السلطة التي وضعت ملامحها وحدودها السلطة الاقتصادية عبر العصور. ويعتبر الجزء الثاني من كتاب ''الجنس الثاني''، دعوة صريحة للحرية الجنسية للمرأة. وقد أثار ضجة كبيرة في فرنسا وخارجها، وانتقده الكثير من الأدباء. قال عنه الروائي جوليان غراك: ''إنه كتاب يتسم بعدم اللياقة، وبمخالفة الآداب العامة وبالوقاحة الصريحة''، واعتبره ألبير كامو: ''إهانة للرجل''. أما الروائي المحافظ فرانسوا مورياك، فقال: ''لقد وصلنا فعلا إلى حدود الوضاعة''. كما هاجمته العضو البارزة في الحزب الشيوعي الفرنسي آنذاك جانيت توريز فرميج، ووصفته بأنه ''إهانة للمرأة العاملة''. وقد حرمته الكنيسة في روما. لكن سيمون دي بوفوار صمدت أمام جميع هذه الانتقادات، وكانت متيقنة بأنها تسعى لخلق وعي ثقافي جديد في قضية المرأة، إذ عرضت أوضاع المرأة من النواحي التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية في القرن العشرين. وقالت سيمون لاحقا عن الكتاب: ''كان من ألوان سوء التفاهم التي خلقها الكتاب، الاعتقاد بأني كنت أنكر فيه أي فرق بين الرجل والنساء، والحقيقة أني بالعكس قست وأنا أكتب الكتاب ما يفصل الجنسين، ولكن ما ذهبت إليه هو أن تلك الاختلافات هي ثقافية وليست طبيعية، وأخذت على عاتقي أن أروي كيف كانت تنشأ هذه الاختلافات (....) وهكذا ألفت الجزء الثاني: التجربة المعاشة''. المثقفون.. رواية القلق الوجودي تعد رواية ''المثقفون''، (نقلها للعربية جورج طرابيشي، وصدرت عن دار الآداب سنة 1961) بمثابة رواية ضخمة من جزأين، وهي من أشهر أعمال سيمون دي بوفوار. صدرت سنة 1954، بعد كتاب ''الجنس الثاني''، وحازت على جائزة الغونكور الأدبية. حققت الرواية شهرة واسعة، رغم ما كان يسمى حينها بأحداث الجزائر، وفق التسمية التي صاغها وزير الداخلية الفرنسي فرانسوا متيران. تحلل دي بوفوار في هذه الرواية عبر بطلتها، وهي محللة نفسانية، نفسية المثقفين الفرنسيين الفاعلين، في إشارة واضحة إلى جان بول سارتر، وألبير كامو، ومقاومتهم للزحف النازي على فرنسا، فينتقلون من لحظة المقاومة إلى لحظة الكتابة، وتلك لحظة ميلاد وبداية شيء جديد اسمه الالتزام. الرواية عبارة عن تأملات في عالم الكتابة وعلاقتها بالفلسفة. وعبّرت سيمون على لسان البطلة عن مأساة الإنسان المعاصر، وكتبت: ''إن الحياة لا تتجزأ، يجب أن تؤخذ ككل، فإما الكل أو لا شيء، كل ما هناك أننا لا نملك الوقت الكافي لكل شيء، هذه هي المأساة''. جاءت الرواية غنية وثرية بالحوارات الفلسفية. وتؤرخ للحياة الثقافية في حقبة ما بعد الحرب في فرنسا، وتقف عند لحظات الشك واليأس، والقلق التي ساورت المثقف الفرنسي قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، بين البقاء في مثاليته والنزول لاحتضان تغيرات الشارع. وتقول البطلة وهي تتحدث عن روبير ''وإذا ما وجد نفسه محكوما عليه ثانية بالعجز والعزلة، فكل شيء سيبدو له باطلا، حتى الكتابة. وكان روبير، المثقف المناضل المتأثر بالفكر اليساري مقتنعا بأن كتبه تساعد على بناء المستقبل وأن إنسان الغد سيقرأها. لذلك كان من البديهي أن يكتب، لكنه متخوف من عدم حصول تفهم الجماهير، ففي تلك الحالة فالموت أفضل له. ولاحقا قالت سيمون دي بوفوار عن الرواية: ''خلافا لما ادعاه البعض، من الخطأ اعتبار ''المثقفون'' رواية مفاتيح، وأنا أحتقر روايات المفاتيح احتقاري لكتب (الحيوات المروية) (....) وأنا لا أزعم أن ''المثقفون'' رواية ذات فكرة، إن رواية الفكرة تفرض حقيقة محو جميع الحقائق الأخرى وتوقف دائرة الاعتراضات والشكوك التي لا تنتهي: أما أنا فقد صورت بعض أشكال الحياة في فترة ما بعد الحرب من غير أن أقترح حلولاً للمشكلات التي تقلق أبطالي''. السيرة الذاتية.. من الأنثى إلى المتمردة ساهمت دي بوفوار في الحركة الثقافية الفرنسية عبر سيرتها الذاتية التي ركّزت فيها على تجاربها كأنثى وامرأة ابتداء من كتابها، قوة السن (1960)، وقوة الأشياء (1963)، الموت السهل (1964)، الكل يهم فعلا (1972)، احتفال الوداع ( 198)، وذاكرة فتاة صغيرة (1985). كما نشرت مذكراتها في أربعة أجزاء.تقدم سيمون في الجزء الأول الصادر سنة 1958 بعنوان ''مذكرات مطيعة'' (1958) تأريخا لمسارها ونشوئها كأنثى ضمن أسرة برجوازية في بدايات القرن العشرين. وتناولت التحولات النفسية والثقافية التي طرأت على ابنة العائلة الكاثوليكية المحافظة، وهي تتعرّض لتأثيرات العصر الجديد. وفي الجزء الثاني الصادر سنة ,1960 بعنوان ''عنفوان الحياة'' عادت دي بوفوار إلى البدايات الأولى من علاقتها مع سارتر. ويعد الكتاب بمثابة سجل حافل لتلك الفترة في الوقت نفسه الذي يعتبر فيه تصويرا حميما للعلاقة التي ربطتها مع سارتر. أما الجزء الثالث من المذكرات، فقد صدر سنة 1972 بعنوان ''كل شيء قيل وانتهى''. وناقشت في هذا الكتاب الاختيارات الوجودية التي تطرحها الحياة على المرء. وتستعرض علاقاتها المركبة مع سارتر وبقية أسرة ''الأزمنة الحديثة''، وكبار المثقفين الوجوديين واليساريين في فرنسا.أما الجزء الرابع والاخير من المذكرات، فقد صدر سنة 1981 بعنوان ''وداعا سارتر''. وتضمن ذكرياتها عن سنوات علاقتهما الأخيرة مع مؤلف ''دروب الحرية''. كما ضمنته تقييما لتلك العلاقة التي مكنتهما من ''أن يحييا بتناغم لوقت طويل جدا''.