أول مرة رأيت فيها الكاتب المغربي إدمون عمران المالح، كانت في مدينة أصيلة، وهي المدينة التي أحبها وأعشق تفاصيلها وإيقاع حياتها اليومي الهادئ والبسيط، وظل شغوفا بها يتردد عليها باستمرار، ولا يخضع هذا التردد أو هذه الزيارات إلى منطق الموسمية، فهو يزورها في كل المواسم في الصيف أو الشتاء، في الخريف أو الربيع، وكلما ساعدته شروطه الحياتية إلى السفر إليها· هي التي كانت ملهمته في أول نص سردي وروائي أبدعه الذي يحمل عنوان ''المجرى الثابت'' وهو النص الذي يحكي عن آخر يهودي مغربي، من يهود أصيلة، دفن بمقبرة اليهود هناك سنة 1966 المطلة على البحر التي لم تسلم من عوالم تعرية رطوبة البحر ورياح الشرقي· جاء إدمون عمران المالح إلى عالم الكتابة والإبداع، أو ''الحج المالح'' كما يحلو لأهل أصيلة أن يلقبوه وعلى رأسهم الفنان التشكيلي خليل غريب، بعد أن تجاوز عمره الستين، وهذا لا يعني أنه لم يكن مهتما ومنشغلا بالكتابة وقضاياها، وهو الأستاذ الجامعي، والمناضل الوطني في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي انتصر مع مجموعة من رفاقه من داخل هذا الأخير، لضرورة تاريخية مفادها أن يعترف الحزب الشيوعي الفرنسي باستقلال المغرب وحقه في تقرير مصيره، كما تنص على ذلك الأدبيات الأممية للحركات الشيوعية كونيا وعالميا· وظل على هذا الحال وفيا لقناعته الوطنية والتقدمية في آن، رغم أنه فك الارتباط بالعمل السياسي والتنظيمي المباشرين منذ أن حصل المغرب على استقلاله· كما أنه رفض وتحت أي تأثير كان ترهيبا أو ترغيبا تهديدا أو إغراء الهجرة إلى إسرائيل في منتصف الستينيات، كم حدث للعديد من اليهود المغاربة الذين سقطوا في شرك الدعاية الصهونية والمتواطئين معها، وصدمهم ماعرفوه من مصير بعدما وقفوا على حقيقة الأساطير الصهيونية· في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم كرمت جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي الكاتب إدمون عمران المالح في ندوة ''الإبداع والمكان'' ملتفتة بذلك إلى بأهمية هذا الكاتب وسعة مخيلته وتجديده لأساليب الكتابة· والذي لو شاء- كما فعل ويفعل كثيرون لو على سبيل الهرولة- وانساق لمغريات آلة التقتيل الصهيونية وإمكانياتها الهائلة في الدعاية والذيوع والانتشار، وهذا مؤكد لحصل على أهم جائزة تمنح للأدباء والكتاب وهي جائزة نوبل· كنت شاهدا - شاهد عيان - ذات مرة ونحن بصدد حضور افتتاح معرض الفنان التشكيلي الأصيلي خليل غريب بقاعة العرض ''أبلانوس'' الواقعة في المدينة القديمة بأصيلة، وفيما كنت أدخن سيجارة خارج بهو المعرض قريبا من بابه، خرج إدمون عمران المالح هو الآخر ليتنفس قليلا من الهواء نظرا لاكتظاظ المعرض بالحضور والزوار، باغته أحد ''الزيلاشيين'' العاملين بالخارج، وتحديدا في هولندا بالسؤال: - لماذا لم تحضر إلى هولندا في إطار تجمع كبير ليهود العالم؟ - لم تتم دعوتي، وإلا حضرت، أجابه إدمون عمران المالح· في ختام هذه التظاهرة تم فتح باب اكتتاب لجمع مساعدات مالية لفائدة ''دولة إسرائيل'' - أنا لا أعرف أية دولة اسمها إسرائيل· أجابه إدمون عمران المالح بانفعال شديد مقضبا حاجبيه الكثيفتين، ومعبرا عن أقصى درجات غضبه واستيائه· كنت قد رأيت إدمون عمران المالح مرات عديدة، وجالسته كثيرا، ولم أراه منفعلا مثلما رأيته ذاك اليوم، وحتى وأنا بصدد إجراء حوار معه في فندق الخيمة بأصيلة ذات صيف، حين سألته عن الأثر الذي خلفه غياب ''ماري سيسيل'' في حياته··؟ كان ذلك بعد رحيلها بأشهر قليلة· تأملني بحزن وألم، وطلب مني بعد أن قال لي لا يمكن أن أصف ذلك إلا بالكارثة، أن نوقف الحوار، لأنه في حالته هذه لا يستطيع أن يواصل· فقد كانت ''ماري سيسيل'' أكثر من زوجة وأكثر من صديقة، هذا إن لم أقل إنها كانت أهم ما في حياته ووجوده وكيانه، بل كانت شرفته التي يطل عبرها على العالم وفوضاه وتناقضاته· وغيابها فعلا ترك خلاء وفراغا واسعين في حياته· هو ذا إدمون عمران المالح الكاتب المغربي الأصيل الذي لا يغير جلده، ولا يساوم في أفكاره وأرائه أيا كان الثمن، كان ولا يزال وسيظل مادام قلبه ينبض بالحياة وفيا لوطنيته المغربية وأصوله وجذوره وتراثه، وبنفس الحماس لا يزال وفيا لعدالة قضية الشعب الفلسطيني ونضاله وكفاحه المستميت ضد الكيان الصهيوني الغاشم· وآخر ما صرح به وآلات الاقتتال واستباحة الدم ترتكب أبشع الجرائم في عدوانها على غزة: ''اللعنة على إسرائيل'' · بعد مساره الفكري والنضالي والإبداعي والحياتي الحافل بالعطاء والحراك وطرح السؤال يحط إدمون عمران المالح رحاله في محطة العمر الأخيرة بعد أن اختار بمحض العروة الوثقى التي تربطه بتراب بلده مدينة الصويرة ليدفن فيها· ونكون نحن المغاربة بالأساس ومعنا كل رموز الفكر والإبداع الإنسانيين بغيابه قد افتقدنا أحد أعمدة الثقافة المغربية · على روحه نقرأ السلام ونقول له كم كنت كبيرا ورائعا وعظيما، كنت وستظل وستبقى منارة مغربية غنية برأسمالها الذي لا يفنى·