وأنا أتصفّح المجموعة الشعرية الأولى ''رعشات'' للكاتبة نعيمة نقري (الصادرة عن دار الأوراسية) بطبعة رديئة وبأخطاء مطبعية فظيعة·· شدّتني المسافة الشعرية والجمالية الشاسعة بين النصوص ومداخلها وكأن المداخل مكتوبة بفارق وعي كبير وعميق بأسئلة الكتابة مقارنة بالنصوص الشعرية المبثوثة في المجموعة والتي تظل تجربة أولى أي مغامرة أولى والمغامرة كلها رهان· تبدو المداخل كنصوص، مؤسسة للقصائد، أكثر قوة ووضوحا رؤيويا وشفافية وجمالا وأناقة· ما هو دور المدخل؟ ما أهميته؟ ماذا يضيف للنصوص المتناثرة في فضاء الكتاب؟ تلك تساؤلات ساورتني وربما قد تساور كل قارئ لمجموعة ''رعشات ''· ربما كانت المداخل إحالة مبطّنة لأرض المرجعيات التي أسست للنصوص·· مرآتها·· رؤيتها لفعل الكتابة·· أو ربما هي ما لم يكن بوسع عمودية النصوص قوله نظرا للسياج العروضي المفروض حول أدوات الجملة الشعرية ذاتها وفسحة الكلام أو ربما هو دليل لجغرافيا النصوص·· المفارقة هي أن النصوص الشعرية بدت وكأنها ثانوية أو حاشية أو شروحا لنصوص مورست عليها رقابة ما، ولكن قدر المقموع أن يظل هو الدافع الأساس للفعل فتجلت المداخل كمتن· ''الغوص في الشعر يشبه الغوص في البحر، الفرق بينهما أنك كلما غصت في الشعر أكثر زادت مقدرتك على التنفّس'' تشبيه الشعر بالبحر ليس أمرا غريبا عن المخيلة الشعرية العربية، فهو يذكر بالبحور الشعرية ولكن فعل الغوص فيه إشارة إلى عمق حركة الكتابة تماما كما تفعل التيارات البحرية أي أنه ليس حركة على السطح·· الكتابة كتاريخ للكلام بموقف وبجمال·· ثم إن الشعر الحي هو القادر على التعاطي مع الحياة التي تأخذ هنا فعل التنفس الذي يتجاوز البيولوجي إلى الرمزي المتعالي بقلقه الثقافي والوجودي، إنه لحظة استيعاب كامل لأبعاد الحياة فكريا وروحيا وجماليا·· تنفس في الماء كما تفعل الأجنة في أرحام أمهاتها·· أليس البحر رحما أولا للوجود؟ أليس الرحم معادلا للكسل المطلق·· للأمان وللنقاء؟ إن هذا الكلام يطرح المقولات المؤسسة لصورة الحياة بوصفه قراءة ثقافية جنينية ومتعالية لشيخوخة ''معنى الحياة'' الممارسة ولطرح فكرة الفن أي الشعر كأرقى ما تكون صورة التعبير عن الحياة· ''في عصرنا هذا كل شيء تغيرت ملامحه حتى العدو'' ''قد أستوعب أي شيء في الوجود إلا تخلي الأخ عن الأخ وقت المحنة'' يمكن تفهم عبودية وارتهان إنسان غير مثقف، نظرا لشفافية وقوة بعض القيود، ولكن لا يمكن تفهم ارتهان إنسان مثقف لأن الثقافة وعي ورؤية وموقف من الشرط الإنساني وعلاقته بالقيم·· فنحن لا نصبح أحرارا بل نتحرر باستمرار، فالحرية معطى متغير ونحن نحاول أن نتخلص من القيود والسجون الرمزية والمادية المفتوحة على اليومي والثقافي فينا وفي حياتنا وعلاقاتنا·· والتي غالبا ما تقدّم نفسها كحلول للصراع الكبير أو تتجلى في صور قيم وقوانين وأعراف تنأى بمصالحها الجماعية عن ''الفرد القلق'' بل وقد تنبذه وتسفّه أشواقه وخياراته لأنها تطرح أسئلة الوجود والمعنى والمصير·· وكأن العبودية قدر ''الإنسان السعيد'' العبودية بكل عذاباتها ومراراتها وكسورها العميقة في الكيان الإنساني·· يأخذ كل شيء بدءا بحق الحرية مقابل وعد بوهم السعادة· ما العدو؟ أو بالأحرى ما هي العداوة؟ هل هو كل ما يعترض مصالحنا وقيمنا وطموحاتنا أم هو من ينتقل بكل هذه الاعتراضات إلى حدود الموقف أو الفعل الذي يهدد وجودنا أو حقنا في الوجود كما نريد؟ إن السؤال عن ملامح العدو يبدو مبرَّرا بالنظر إلى ما يمليه افتراض الأخوة·· في تصورنا الاجتماعي على الأقل· إذن السؤال عن ملامح العدو هو في عمقه سؤال عن ماهية العدو وهذا سيفضي حتما إلى إعمال أدوات التعريف كالتمييز والوظيفة والشكل·· وهذا يفترض أيضا نوعا من الحيادية في التعريف وكل هذا يبدو في السلوكيات والمواقف·· فالمفترض في الثقافة والفكر ''القبليين'' أن الأخ هو ''نصير'' بحكم القانون البيولوجي·· نصير في كل الظروف لأن النصرة في حد ذاتها موقف أو دليل أخوة في شرع هذه الثقافة بالذات· هل السؤال هنا إعلان مبطن عن غياب الأخ وبالتالي الحنين إلى الثقافة التي تؤسس لفعل الأخوة، وهذا ما قد يفسر الخيبة لأن الخيبة تكون بحجم ومستوى الآمال و الرهانات؟ أم هو تساؤل عن ضرورة إعادة طرح مفهومي الأخوة والعداوة إنسانيا وبرؤيا أعمق وأشمل، وبعيدا عن ثقافة القبيلة وإكراهاتها على المستوى الاجتماعي عموما وعلى مستوى الفرد والأنثى تحديدا؟ بمعنى هل ''الأخ والعدو'' موجودان فينا أم في الواقع؟ وهل يجب تحريرهما منّا أم تحريرنا منهما؟ وبالتالي البحث في مكان آخر وبأدوات أخرى، ففي الثقافة القبلية تبدو الأخوة ''واجبا'' لا ''خيارا'' أو ''حبيبا'' فرضته البيولوجيا ويجب التواطؤ معه على الحياة ذاتها· الكتابة إصغاء مليّ وانتباه حاد وتساؤل صادم·· ولذا ستزول كل هذه ''الخيبات'' بإحالتها إلى التساؤل حول المرجعيات والمقولات والمسلّمات التي أنتجتها، فمقولة الأخ في الثقافة القبلية هي أداة في خطابها وممارستها للسلطة فالأخ ''أب مؤجّل'' أو في الانتظار أو مع وقف التنفيذ·· خصوصا إزاء الأنثى·· باعتبارها قاصرا مدى الحياة وغير مؤهّلة لممارسة أية سلطة وهذا ما يتجلى في تداخل مساحات وفضاءات الممارسة الحرة وحركة الأفراد والخيارات داخل هذه المؤسسات القبلية· إن الوعي بهذه المشكلات هو دعوة لفهم التناقضات الصارخة في الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي· ''أشعر أن الحب بحاجة إلى حملة تشجير'' هل امتدّت الصحراء إلى حديقة الإنسان، وإلى بيته الحميم ليحتاج الأمر إلى حملة تشجير؟ هل تفشى الجفاف، إلى هذا الحد، في الكيان الإنساني؟ وهل الحب نوع كائن مهدد بالانقراض؟ أم إن الحياة جفّت وتصحّرت بفعل تخريب كبير حدث أو لا يزال يحدث؟ أم هو تخريب في الإنسان الذي تحول من محبّ إلى منتقم؟ وهل هذه الملايين من البشر مولودة بدون حب أو عن طريق الخطأ أو الإكراه أو بشكل فارغ من كل معنى؟ وهل هم موجودون بفعل ''البيولوجيا'' لا ''الثقافة''؟ أم هم موجودون بفعل ثقافة·· الحب فيها جريمة شرف واعتداء على قداسة وسلطة الأب؟ أكتفي بهذه القراءة العجولة لبعض مداخل نصوص هذه الكاتبة الواعدة، مشيرا إلى بعض هذه المداخل التي لم يسعني الوقت لقراءتها ''بعض البشر لفرط جمالهم·· نشكّ في أدميّتهم'' ''أحلى ما في الهمس·· الهمس'' ''بعض الجمال·· لا حل له'' ''ما لا يغتفر للجمال·· أن يلبس الحمقى'' ''قمة البشاعة·· خيانة المحبة'' ''لست أدري لماذا كلما سقط المطر·· تفتّحت أنوثتي''·