رغم أنها مصنفة كدائرة إدارية يرأسها والي منتدب، إلا أن مدينة براقي لم تتخلص لحد الآن من تركة المساكن القديمة التي هي أقرب إلى ''القيتوهات'' منها إلى بيوت حقيقية يعيش فيها المرء بكرامته· لقد انفجر الوضع في الحي قبل أسبوع من الآن، بعد كثير من الانتظار، وبعد أن هدأ الوضع، دخلنا الديار من أجل إعادة رسم صورة لها·· في قلب المدينة يبرز حي ''ديار البركة'' الذي يعود إلى العهد الاستعماري، بقبابه التي تبدو من بعيد كأنها مزارات أو أضرحة لبعض الأولياء الصالحين· لكن تلك ''المزارات'' التي بقيت منسية مدة طويلة، لفتت إليها الانتباه بشكل مفاجئ الأسبوع الماضي عندما اندلعت فيها حركة احتجاجية أدت إلى مواجهات عنيفة بين بعض السكان وقوات التدخل السريع، استعملت فيها زجاجات المولوتوف من جهة والرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع من جهة ثانية، وأدت في النهايات إلى إصابات متفاوتة وبعض الاعتقالات من شباب الحي، قبل أن يعود الهدوء في الانتظار الآتي· ولئن نالت السلطات المحلية والوالي المنتدب ''حظها'' من الانتقاد والاتهام بالتسويف وتأجيل حل مشكلة الحي الذي بدأ ترحيل جزء من سكانه سنة ,2004 لكن الأمر طال أكثر مما يجب (حسب السكان)، في وقت جيء بسكان قدماء لأحياء ديار الكاف بباب الوادي وبوبيو بوسط العاصمة في فترة سابقة إلى حوش الميهوب الذي بنيت فيها مساكن جديدة مجهزة كما ينبغي، وسكان ديار البركة يرون أنفسهم أولى بتلك السكنات من غيرهم، فهي قريبة جدا منهم وكان على الوالي المنتدب لبراقي أن يدافع عن ''شعبه'' كما يقولون، فإن هذا الأخير استقبل، مساء أول أمس الثلاثاء، ممثلين عن الحي، ووعدهم بحل المشكل في القريب، وقال لهم أنه يعمل على ترحيل أقصى ما يمكن من السكان في ''الرحلة'' المقررة قبل نهاية السداسي الأول من سنة ,2012 غير أنه أصّر على التأكيد أنه لا يعلم بالضبط متى تتم تلك الرَحلة ولا عدد المرحلين فالأمر من صلاحيات ولاية الجزائر العاصمة، وكل ما وعد به أن يكون ''محاميا'' جيدا لهم· هكذا تفجر الوضع في هذه الديار يتكلم ''سمير'' الذي ولد وكبر في حي ديار البركة عن المشكلة، وجذورها، ويقول: ''الوالي المنتدب الحالي لدائرة الحراش الإدارية نجح بوعوده وتسويفاته في تهدئة الناس، وفي كل مرة كان يعد بتسوية الوضع في أقرب وقت، وقال في وقت سابق إن المشاريع السكنية في بن طلحة وحوش الميهوب ستكون فيه الأولوية لسكان ديار البركة، قال ذلك عبر أمواج راديو البهجة والبعض ما زال يحتفظ بتلك التسجيلات، وفي النهاية كانت تلك السكنات من نصيب المرحلين من باش جراح والكاريار (ديار الكاف) ومن حي الجزيرة بباب الزوار، وتبين أن وعود الوالي السابق مجرد كلام''· وعن الأحداث التي اندلعت الأسبوع الماضي، يقول سمير: ''كان من المفترض أن يتم تفجير ثلاث قارورات غاز البوتان وانفجرت واحدة منها·· انتظر سكان الحي طويلا ولم تتحقق تلك الوعود المعلقة منذ سنين، رحّلوا شطرا من سكان الحي مقدّر ب120 عائلة، هم يسكنون الآن في حي سكني قريب من هنا، وبعضهم يسكن حي حوش الميهوب والبعض في منطقة 13 هكتارا، قيل لنا أن الترحيل يتم كل 15 أو 20 يوما، لكن بعد ذلك ''غمّونا''، ثم تتسرب إشاعات يقول بعضهم أن الرحلة القادمة ستكون في أكتوبر، في التاسع من ذلك الشهر والبعض الآخر يقول في اليوم الثامن، ويتأجل الأمر إلى شهر آخر وتتوالى الأيام والشهور ولا يتحقق شيء ومن هنا بدأ الغضب يكبر إلى أن جاء ذلك الانفجار، ومع العلم أن الحي مازالت فيها حوالي 600 بيت ينتظر أهلها الترحيل دون أن يتحقق على أرض الواقع''· ويضيف سمير وهو يتكلم أمام بقاء بنايات قديمة مهدمة: ''لقد بدأوا من هنا، رحّلوا السكان الذين كانوا يقيمون في هذه المنطقة على أن يتواصل الترحيل والتهجير، لكن العملية توقفت بشكل مفاجئ·· ومن هذا المنطلق تحول القلق إلى احتجاج، وعندما يسأل السكان عن المصير لا أحد يعطيهم الجواب الكافي، وكل مسؤول يلقي بالمسؤولية على الآخر، فإلى متى ونحن على هذا الحال''· وفي وسط الحي يتجمع السكان وكل يحكي ما جرى ساعة المواجهات مع قوات حفظ النظام عندما اندلعت الاحتجاجات الأسبوع الماضي بطريقته الخاصة، حيث يختلط الذاتي بالموضوعي· يقول خ· س: ''لي طفلة عمرها أربعة أشهر لها مشكلة في القلب وكان من المفروض أن تجري عملية جراحية، ونتيجة للقنابل المسيلة للدموع حملتها وأنا أجري بها من أجل إنقاذ حياتها·· وزيادة على معاناتنا القديمة فقد عانينا جراء تلك المواجهات''· ويضيف زميله: ''هناك حوالي 220 مسكنا جاهزا في منطقة 13 هكتارا لم توزع، لن نتسامح إذا كانت من نصيب غيرنا، وهناك مساكن أخرى في بن طلحة لن نتسامح أيضا إذا كانت من نصيب الغرباء''· ويتناول سمير الحديث من جديد: ''الوالي المنتدب لبراقي، من المفترض أن يدافع عن سكان دائرته، حيث أن السكنات الجديدة في المنطقة الأولوية فيها لسكان الناحية، وهذا لم نجده في أرض الواقع''، ويضيف أن رئيس الحكومة في وقت سابق قال إن الأولوية في الترحيل هي لسكان ديار الشمس وديار البركة وديار الكاف، لكن الواقع جرى على حساب سكان حينا''· ويقول خ· س بنبرة التحدي: ''اقترح علي الوالي المنتدب أن أخرج من بيتي لمدة أسبوع، على أن يسكن هو وعائلته مكاني، وأتحداه أن يبقى في هذا المكان طيلة سبعة أيام·· إنه وضع لا إنساني وغير قابل للعيش، لي غرفة واحدة أبيت فيها وأطبخ فيها، وبنتي عمرها سبعة عشرة سنة تبيت معنا في نفس الغرفة الضيقة''· ويقسم أحد بالله وهو يقول: ''عند هطول المطر، نلجأ لتجفيف البيوت باستعمال الأغطية عوضا عن النشّاف العادي وساعتها لا يستطيع أي شخص النوم فهو مشغول تارة بالبحث عن طريقة للهرب من السيول وتارة لتجفيف البيت من الماء وطورا خوفا من أن ينهار السقف على ساكنيه''· ووسط بيوت ديار البركة، حيث الأوحال من جهة والآثار البيوت المهدمة والأخرى التي طال انتظار هدمها، يواصل السكان رحلة الانتظار والكل ما زالت في ذهنه صورة الاحتجاجات والمواجهات مع قوات مكافحة الشغب، حيث يروي كل بطريقته الخاصة، ويتدخل بعضهم بالقول: ''الوالي يقول بأنه يتعامل مع اللجنة، لكن اللجان المتعاقبة فشلت في حل المشكل، حيث أن كل واحد بدا أنه يدافع عن مصالحه الشخصية· نحن لم نفهم كيف تعمل تلك اللجان·· هل تعلم بأن هذه الأرضية المخصصة لسكنات غير إنسانية، في النهاية ستعود ملكيتها إلى الدولة لتبني فوقها مساكن عصرية لائقة؟ فلماذا التماطل في إتمام العملية ونحن نرى الجزء المهدم منذ سنين لم يتم استغلاله لحد الآن وبقي على هذا الحال منذ انطلاق العملية الأولى سنة 2004؟''· هذا ليس بيتي، إنه الرصيف يصّر خ· سمير، أحد سكان الحي على دخولنا إلى بيته، تجاوزا يسمى بيت فهو ضيق بالفعل ولا يتوفر على أدنى مقومات الحياة، ويقف وسط الغرفة وهي كل البيت تقريبا ويقول: ''لقد توفي لي ابن من شدة معاناته مع الرطوبة التي لا تحتمل، ولي ثلاث بنات أصغرهن عمرها بضع أشهر تعاني من مشكلة في القلب· انظر إلى الفوق، فليس لي مكان أضع فيه الملابس إلا أعلى الخزانة التي قد تنهار علينا في أية لحظة، ثم يحمل بقايا قنبلة مسيلة للدموع ويقول: لقد سقطت على البيت ودخلت من النافذة وأنا احتفظ بها للذكرى، هل تسمي هذا بيتا؟ إنه قبر بالفعل· انظر إلى المرحاض، ألا تعلم أني بنيته في الرصيف، هذا الذي تراه ليس جزءا من البيت، بل هو جزء من الرصيف بنيت عليه المرحاض، هل يتصور أحد حياة بهذا الشكل؟ هل هذه معيشة؟''· وخارج بيت خ· س، نلتقي عمي رابح وهو أب وليد الذي يلعب حارس مرمى في فريق براقي وهو الآن أحد معتقلي الأحداث الأخيرة، يتكلم عمي رابح والدموع في عينيه: ''ابني لم يفعل شيئا، هو أصلا مصاب في أسنانه نتيجة للرصاص المطاطي، وله شهادة طبية فيها عجز لمدة 42 يوما، وعندما ذهب إلى الشرطة تم اعتقاله· عمره الآن لا يتجاوز العشرين سنة ويواجه تهمة الشغب مع أنه بريء منها بشهادة الجميع''· يأخذنا عمي رابح إلى بيته، وعند الدخول، تصرخ زوجته وهي في حالة فزع ظنا منها أن الأمر يتعلق بمداهمة أو شيء من هذا القبيل، وتكاد تسقط جراء الصدمة لولا أن زوجها يهدئها· يحاول عمي رابح أن يرينا ''غرفة'' وليد، نترك الأم وهي في حالة الصدمة لينقلنا شقيقه إلى ما يسمى الطابق العلوي باستعمال سلم خشبي ينتهي بما يشبه الثقب يؤدي إلى ما يشبه المخبأ ويقول: هنا كان ينام وليد، هذا هو بيته· ولا يلبث كثيرا قبل أن نحاول الخروج من ذلك المخبأ الذي يحتاج إلى مرونة وحيوية وبعض المجازفة لمن لم يتعود على الأمر· وخارج البيت يتكلم عمي رابح ويتبعه أهل الحي، قائلين أن البيت من شدة ضيقه لا يتسع لأفراد العائلة، حيث أن اثنين منهم يضطران للبيت في ورشات البناء القريبة على أن يبقوا في ذلك الجحيم الذي لا يمكن أن يسع عائلة عدد أفرادها محدود· أوحال في الطريق إلى المدرسة ليس بعيدا عن بيت عمي رابح الذي مازال تحت صدمة الاعتقال، يتجمع كثير من سكان ديار البركة والكل يصّر على أن ندخل بيته، ورغم أن حالة البيوت تكاد تكون واحدة إلا أن الدخول إلى بعضها يعطيك تفاصيل جديدة، الكل يشتكي من الضيق ومن الرطوبة الواضحة جدا على الجدران، ومن الأمطار التي تكاد تأتي على السقوف، والكل يذكر الليالي السوداء التي يقضيها الجميع عند هطول السيول، حيث يتساوى الذي في البيت بالذي خارجه· وخارج البيوت ويواصل الأطفال رحلة الذهاب والإياب إلى المدرسة الابتدائية القريبة من هناك، لكن الطريق إليها ليس سهلا، والمدرسة التي يفصلها عن الحي ذلك الفراغ الذي أحدثه تهديم البنايات القديمة، طريقها غير معبّد بل هو مليء بالأوحال، حيث تختلط المجاري مع مياه الأمطار في فصل الشتاء مما يجعل الوضع مهيئا للأمراض المتنقلة ومع ذلك يستمر انتظار الترحيل، إلى مساكن أخرى، ورغم أن الحل يبدو سهلا ولا يحتاج إلا إلى بعض الوقت إلا أنه استمر منذ الاستقلال، والسلطات التي يتهمها السكان بالتماطل، ترى نفسها في مأزق وعدد الأسر ليس مضبوطا بل يزداد مع مرور الوقت، لكن هذا ليس مبررا للحالة اللاإنسانية التي يعيشها الحي الذي يشبه ''القيطوهات'' أو مراكز الاعتقال القديمة· رحلة انتظار آخر لقد انفجر الوضع ثم عاد إلى هدوئه مع وعود جديدة بالرَحلة، ليمارس السكان حالة انتظار جديدة قد تنتهي بالفرج ليختفي الحي من الوجود، كما قد يطول ليتحول إلى حالة احتجاج جديدة، وهو ما لا تتمناه السلطات المحلية·