.. ومتى نطلع ونطالع مذكرات رئيسنا المرحوم أحمد بن بلة التي أعلن عنها ووعد بها منذ سنوات؟ تساؤل مثير وخطير غالب دمعتي الحزينة إثر سماعي خبر وفاة الرئيس الأول لجمهورية الجزائر المستقلة. وسرعان ما عدت إلى شريط الذكريات لأفتح صفحة ناصعة البياض من سجله الذهبي المنسي، من خلال العودة إلى المحاضرة الهامة التي ألقيتها بمسقط رأسه مدينة مغنية، بمناسبة الأسبوع التكريمي الذي خصص له منتصف ماي.2005 وأعود إليها الآن يوم وفاته في 11أفريل 2012، لنشرها كاملة للذكرى والعبرة والترحم على روحه الزكية الطاهرة. .. وقبيل انطلاق الفعاليات الكبرى لتكريم الرئيس الأسبق أحمد بن بلة من 14 إلى 20 ماي .2005 بادرت بزيارته بمنزله العائلي بقلب مدينة مغنية الرابضة قرب الحدود الجزائرية المغربية. استمعت إليه بإمعان واهتمام وهو يتحدث بحماس فياض عن معاني ودلالات المصالحة الوطنية في المرحلة الراهنة. بعد أن أهديته نسخة موقعة من كتابي: ''مفدي زكريا شاعر مجد ثورة''. وسرعان ما عادت به الذكريات ليذكر ويتذكر تفاصيل تلك الجلسة الحميمية التي جمعتني به مطلع نوفمبر 1980 مباشرة بعد خروجه من السجن، وكذا الحديث الذي دار، باعتباري أول صحفي جزائري يتقرب منه وقتئذ. عدت إلى نفسي لأتساءل: لماذا لا أنشر نص الحديث كاملا الآن، ولو بعد مسافة زمنية تقدر بربع قرن؟.. فالظروف مواتية، والحديث يحمل بين طياته إشارة بليغة للمحبة والمصالحة.. ومواقف الرجل العظيم تظل دوما ثابتة قوية، رغم مرور الزمن. أما لماذا لم ينشر هذا الحديث في حينه، فتلك حكاية أخرى، سأروي تفاصيلها وخلفياتها في مشروع كتابي" :أوراق صحفي محترف''. وهو خلاصة تجربة ثلاثين سنة من الممارسة الإعلامية. لقاء·· حوار وأفكار ما إن علمت بوجود الرئيس الأسبق أحمد بن بلة بوهران صباح يوم الخميس الماضي (13 نوفمبر1980) حتى سارعت بالتوجه إلى منزل صديقه القديم الدكتور محمد نقاش وزير الصحة في أول حكومة بعد الاستقلال، صحبة مصور وكالة الأنباء الجزائرية. ولدى وصولي دهشت حقا لبساطة استقبال القادمين لتحية السيد بن بلة. انتظرت قليلا بقاعة الاستقبال ريثما يفرغ من تناول غذائه مع عدد من أقاربه وأصدقائه. وبعد ذلك انتقل إلى غرفة مجاورة، فاستأذنت الدكتور نقاش ففسح لي المجال. دخلت عليه مصافحا: أهلا بالسي أحمد. فقام من مكانه وعانقني وكأن له صداقة قديمة بي. فشجعني ذلك على مبادرته: هل تسمح لي بحديث قصير خاص لوكالة الأنباء الجزائرية. فرد مبتسما وهو يربت على كتفي: بل أنا مستعد لحديث طويل معك، المهم أن يسمح لك المسؤولون عنك بنشره. فتكورت في داخلي، ورجعت قليلا لأستذكر ما يسمى ''بالرقابة الذاتية'' و''الرقابة الإدارية'' الممارسة في الحقل الإعلامي، وقلت مع نفسي: لتكن دردشة خفيفة، بعيدا عن آلة التسجيل ودون استعمال القلم والورق. ومع الرشفة الأولى من كأس الشاي الساخن، بدأ الحديث الهادئ. سيادة الرئيس. الحمد لله على السلامة بعد معاناة مريرة مع السجن، لا تخلو من ذكريات وعِبر، من أين تبدأ الحكاية؟ في الحقيقة، السجن خلق للرجال، كما يقولون، وقد استفدت كثيرا من أجواء العزلة التامة التي مكنتني من المطالعة المستمرة، والتعمق في الفكر العربي الإسلامي، وما يحمله من رسالة إنسانية خالدة. والسجن علمني معاني ودلالات الصبر الجميل، وتعميق المحبة والتسامح والتعاون بين الناس. وفي السجن أيضا عرفت قيمة السعادة الزوجية مع السيدة المحترمة: زهرة سلامي، وهي صحفية قديرة تعرّفت عليها من قبل عندما كنت رئيسا للدولة الجزائرية. وعندئذ بادرت السيد أحمد بن بلة بالسؤال: هناك أحداث جسام وقعت في الساحة الدولية، طوال فترة غيابكم، إلى أي حد تمكنتم من متابعة تلك الأحداث؟ فأجاب قائلا: بالفعل، وقعت عدة أحداث كبرى في الساحة الدولية، خلال السنوات الطويلة الماضية، ومع ذلك فقد تتبعت تلك الأحداث ولو من بعيد. لكن ما يؤلمني حقا هو الوضعية المزرية التي آل إليها واقع العالم العربي والإسلامي، من تمزقات وانتكاسات وصراعات هامشية، لن يستفيد منها سوى أعداء الأمة العربية والإسلامية. قلت له من جديد: وكيف كان وقع نبأ وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كصديق حميم بالنسبة إليكم؟ سكت لحظة ورد قائلا: لقد تأثرت كثيرا لوفاته، خاصة في تلك الظروف العصيبة التي كان يمر بها العالم العربي وقتئذ، بعد هزيمة جوان 1967 فقد كان رجلا عظيما مهما قيل ويقال. غير أنني اليوم أتألم أكثر، عندما أتطلع إلى مصر السادات، حيث التراجع عن المكاسب الوطنية، وضرب القضية العربية في الصميم، والتآمر على قضية الشعب الفلسطيني. ثم سألته: خلال فترة إقامتكم بمدينة المسيلة، نسبت إليكم بعض الأحاديث الصحفية، وخاصة منها تلك المنشورة بمجلة الوطن العربي التي تصدر بباريس، ما صحة تلك الأحاديث؟ فبادر بالجواب قائلا، والابتسامة تعلو محياه: لا صحة لتلك الأحاديث الصحفية المفتعلة، فقد اطلعت بالفعل على نص الحديث المنسوب إليّ في مجلة ''الوطن العربي'' ودهشت ''لمهارة'' أولئك على تلفيق المادة الخبرية، سعيا وراء خرافة ''السبق الصحفي''· كما حز في نفسي أيضا طريقة بعض الصحف والمجلات الأجنبية، في استغلال شخصي لأغراض مادية تجارية محضة، كما هو الحال مثلا مع مجلة ''جون أفريك''· وعدت لأسأله من جديد: خلال السنتين الماضيتين، وقع في العالم الإسلامي حدث كبير، يتمثل في ''الثورة الإيرانية'' ويقال بأن لك رأيا خاصا في هذا الموضوع؟ هل يمكن أن نعرفه؟ فأجاب قائلا: بالفعل، لقد تتبعت باهتمام كبير حدث الثورة الإسلامية في إيران، التي اعتبرها بحق، أول ثورة شعبية في العالم المعاصر، تتخذ منطلقها من الموقع الحضاري، بعيدا عن أي نوع من التأثيرات والضغوط الأجنبية. ومع ذلك، هناك سلبيات في مجال التطبيق، إلا أن الإيجابيات تفوق جميع السلبيات. وعلى ذكر الثورة الإسلامية في إيران، انساق السيد أحمد بن بلة في الحديث عن التبعية الأجنبية، وضرورة التحرر الثقافي والحضاري، حيث قال بمنطق المثقف الواعي: في رأيي، أن من بين أهم أسباب تخلفنا، هو انفصامنا وانفصالنا عن منطلقنا الحضاري. رحنا نستورد كل شيء من الخارج، التقنية العصرية، والأفكار الجديدة، من غير أن نبذل أي جهد يذكر في مجال البحث والإنتاج. وتلك هي مشكلتنا الرئيسية. ومن هنا، لابد من الاهتمام المتزايد بمسألة التحرر الثقافي والحضاري عن الغير، وذلك من غير أن نسد الأبواب والنوافذ عن الهموم العالمية، والأفكار المستحدثة. ولعله من هنا، تأتي ضرورة الثورة الثقافية كإحدى الأولويات الأساسية في تحررنا الحضاري وبناء الإنسان الجديد الراقي والمتقدم. واعتبر أن قيمة أي مذهب سياسي أو ديني أو اجتماعي أو اقتصادي، تكمن في مدى اهتمامه بتكوين وترقية الإنسان، رأس مال كل مجتمع. ... وكان الوقت يمر سريعا، والضيوف يتكاثرون وينتظرون بقاعة الاستقبال، فحاولت مرغما من جهتي أن أقطع حبل الحديث. فاستسمحت السيد أحمد بن بلة وحرمه السيدة سلامي الزهرة، وودعتهما، وانصرفت. وفي الليل، بات شريط هذا الحديث، يقلقني، ويمر بذاكرتي لقطة بلقطة. فهناك تساؤلات كثيرة لم تطرح بعد. لكن ما حيلتي، ووقت الرجل ثمين، ولأصدقائه القدامى ورفاق نضاله حق الجلوس معه والتحدث إليه. وفي مساء اليوم الموالي (الجمعة 14نوفمبر 1980) توجهت من جديد إلى منزل الدكتور النقاش. وانتظرت قليلا مع المنتظرين، قبل أن يسمح لي بالدخول إلى الغرفة الخاصة بالسيد أحمد بن بلة، حيث جلست إليه، إلى جانب حرمه السيدة سلامي الزهرة والدكتور النقاش. وبادرته بالسؤال: علمت بأنكم زرتم قبر الزعيم الوطني مصالي الحاج للترحم عليه، خلال تواجدكم منذ يومين بتلمسان، ما مغزى تلك الزيارة؟.. فسكت هنيهة، قبل أن يجيب: في الواقع أن المرحوم مصالي الحاج، رغم كل ما قيل ويقال، يظل أحد الرجال الوطنيين الذين ساهموا بقسطهم في بناء صرح تاريخ الجزائر المعاصر، ولا يجوز لنا بأي حال من الأحوال إهمالهم أو طمس معالم شخصيتهم وأعمالهم، رغم اختلافنا معهم، فالتاريخ هو الوحيد الذي سيقول كلمته الفاصلة في الموضوع، وهذا التاريخ الحقيقي، سيكتبه رجال مخلصون وطنيون موضوعيون، ولو بعد أجيال. ومن هنا، قمت بالترحم على مصالي الحاج، مثل ما فعلت مع الشهيدين أحمد زبانا ومصطفى بن بولعيد، فهم من بين رجالات الجزائر المعاصرة، الذين تركوا بصماتهم الواضحة على مجرى التاريخ. واستطرد الرئيس أحمد بن بلة في حديثه عن الحركة الوطنية في الجزائر قبيل الثورة التحريرية، حيث قال: عندما كنا نناضل ونكافح من أجل حرية الجزائر وعزتها، لم نكن نطمح أو نطمع في يوم من الأيام أن نتولى المسؤولية، بل أكثر المناضلين والمجاهدين لم يصل بهم طموحهم إلى العيش في ظل الاستقلال الوطني. لكن الحمد لله، لقد استقلت الجزائر. وهي اليوم تسير بفضل نضال وكفاح وجهود جميع أبنائها المخلصين. وهنا، توجهت إليه بالاستفسار عن رأيه في الواقع وآفاق المستقبل. فاعتدل في جلسته، قبل أن يجيب: استبشر بالحاضر والمستقبل خيرا، فهناك بوادر أمل كبير بدأت تلوح في سماء الجزائر منذ أكثر من سنة، حيث يشعر كل مواطن بدفء التنفس في الهواء الطلق. ولعل نجاح أي ثورة كانت، يكمن في مدى الأهمية التي توليها لبناء الإنسان، رأسمالها الوحيد والثمين في آن واحد. وسألته عن إقامته القادمة: فأجاب بأنه سيستقر بالجزائر العاصمة، بعد أن يقوم بزيارة معظم المدن الجزائرية واللقاء بالأصدقاء والأحباب. وسألته عن عودته للحياة السياسية، فأشار بأن همه الوحيد في الظرف الراهن هو اللقاء مع أصدقائه ورفاق نضاله، والتحدث إليهم ومعهم. وختاما توجهت إلى حرمه السيدة سلامي الزهرة بالسؤال عن إمكانية عودتها إلى الحقل الصحفي، باعتبارها صحفية جزائرية قديرة. فابتسمت، وابتسم زوجها، قبل أن يقول: إنها الآن معي، على أية حال، ورفيقة دربي وحياتي. وكان الوقت يمضي سريعا، وعز عليّ أن آخذ أكثر من وقته الثمين، فشكرته من الأعماق، وودعته، وانصرفت وفي ذهني أكثر من علامة استفهام . لقطات صغيرة ودلالات كبيرة خلال متابعتي لزيارة السيد أحمد بن بلة لوهران نهاية الأسبوع المنصرم: الأربعاء، الخميس والجمعة (12 و13 و14 نوفمبر 1980)، سجلت بعض اللقطات الصغيرة ذات الدلالات الكبيرة: تمكن من مشاهدته والسلام عليه عدة مئات من أصدقائه القدامى ورفاق النضال ومحبيه ومعظمهم من الموظفين البسطاء والحرفيين وصغار التجار والمتقاعدين ولم يكن من بينهم أي شخص يتولى مسؤولية ما على الصعيد المحلي. كان جو الاستقبالات وديا وأخويا وعائليا يشعر الحاضر وكأنه في حفل استقبال حاج قادم من البقاع المقدسة أو مغترب طال غيابه، التحيات والمعانقة بالأحضان وتبادل الأحاديث الودية بصفة عادية· اسم ''بن بلة'' قلما كان يذكر خلال تلك الاستقبالات واللقاءات المتعددة، فجميع الحاضرين يذكرون اسم سي أحمد وكفى فهو مواطن قبل كل شيء كان له شرف الإسهام في بناء صرح تاريخ الجزائر المعاصر. عندما تجلس إليه أو تستمع إلى حديثه لا تشعر مطلقا بأنك أمام شخص كان من قبل رئيسا للجمهورية في الجزائر المستقلة، وإنما تحس أنك إلى جانب مواطن عادي، متواضع مثقف ومحنك التجربة وواسع الاطلاع، يتحدث العربية بطلاقة مدعمة بالأمثال الشعبية، ومن حين لآخر يوضح بعض الأفكار باللغة الفرنسية. معظم أحاديثه مع زواره تدور بصفة عامة حول الأوضاع المزرية التي آلت إليها أحوال العالم العربي والإسلامي، مركزا على الجانب الحضاري للمسألة، مؤكدا على ضرورة التشبث بمقوماتها الحضارية، قبل تفتحنا على التقنية العصرية التي هي في الوقت نفسه خلاصة حضارية، مع ضرورة التحرر الثقافي من أي تبعية أجنبية. هناك إحساس قوي بين جمهور زواره بقوة النظم السياسي الحالي للجزائر، بل أن أكثر الأحاديث تتركز حول شخصية الرئيس الشاذلي بن جديد كرجل الوحدة الوطنية الذي يسعى إلى ترقية الإنسان الجزائري من كل الجوانب المادية والاجتماعية. من بين زواره فتاة من مواليد ما بعد الاستقلال وبالتحديد يوم 28 سبتمبر 1962 اليوم الذي تولى فيه السيد بن بلة مقاليد السلطة في الجزائر تقول هذه الفتاة بأنها جاءت لتشاهد الرجل الذي ارتبط شخصه بتاريخ ميلادها وتلك فرصة عزيزة على النفس. هناك عدد محدود من رجال الأمن بلباسهم المدني، يصعب تمييزهم من بين الحاضرين، يحرصون على ضمان النظام والأمن، في جو من الهدوء التام، ويرحبون بالزوار مثل كل الحاضرين بلباقة. كان من بين الحاضرين بعض الصحفيين والمصورين من تلفزيون ألمانيا الإتحادية ومن مجلة جون أفريك، ومن جريدة لوموند، إلى جانب شخص ليبي كان صديقا حميما للسيد بن بلة أيام زمان، عندما كان يشرف على رعاية أبناء الشهداء الجزائريين على الحدود التونسية الجزائرية، وغادر مطار وهران يوم الجمعة ليتوجه إلى عمان، حيث يقوم حاليا بالإشراف على رعاية أبناء الشهداء الفلسطينيين. جميع أولئك الصحفيين الأجانب كانوا يقومون بتتبع استقبالات وتنقلات السيد بن بلة، ويلتقطون العديد من الصور، ولم يتم إجراء أي حديث صحفي مع أي واحد منهم، وإن كانوا يحضرون جلساته العامة وسط أقربائه وأصدقائه. قالت امرأة لزميلاتها بعد أن شاهدت كاميرا تلفزيون ألمانيا الإتحادية تلتقط صور حفل الاستقبال: لاشك سنشاهد مساء اليوم صورنا على شاشة التلفزيون الجزائري فأجابتها إحداهن: لا أعتقد ذلك، فالمصور أشقر ويبدو أجنبي، وانتهى الحديث.