لست أدري لماذا أحنّ لطفولتي كثيرا هذه الأيام، طفولتي البريئة التي لم تكن تعرف من السياسة سوى رئيسا أبيض الشعر كثيرا ما تساءلت لماذا هو بالذات شعره أبيض والشعب كله ذو شعر أسود، ولكن سرعان ما وجدت الإجابة وحدي وفهمت أن من يكون رئيسا يجب أن يتميّز على الباقي ولو بلون الشعر، أحنّ لأغنية ''ماراناش حابين فلفل أكحل.. رانا حابين رئيس فحل'' رددتها مع أصدقائي في بداية أزمة 1988 دون أن نعرف بُعدها السياسي، أحنّ لجريدة ''الشعب'' ذات الحجم الكبير، كنت أسرقها لأبي وأفرشها أرضا وأنبطح على بطني لأقرأها من البداية للنهاية دون ملل وأنتظر موعد الخامسة مساء حتى ينتهي التشويش الذي يهجم عليك لو تجرأت وفتحت التلفزيون قبل ذلك، ولم أكن أعرف أنه سيأتي اليوم الذي سنملك فيه من القنوات التي تعطيك ما تريد في الوقت الذي تريد وكذا بالمال الذي تريد سواء كان فاسدا أو غيره. في طفولتي كان حزبا سياسيا واحدا، يشتغل الجميع تحت لوائه كان اسمه الأفلان، كان أبي يقول عنه دائما إنه المدرسة السياسية التي تكوّن إطارات المستقبل، تطوّر فيما بعد وأصبح اسمه ''الآفة'' نظرا للمؤامرات العلمية والدسائس التي يحيكها أصحابه وتقريبا أصبح ملكية خاصة اشتد النزاع عنها وأصبح يكوّن ''بلطجية'' في العمل السياسي، ولم أكن أعرف أيضا أنه سيأتي اليوم الذي يصبح عدد الأحزاب مثل عدد الغواني والراقصات. لم أكن أسمع سابقا سوى عن بومدين الموسطاش والرئيس صاحب الشعر الأبيض وعبد الحميد لاسيانس وغزالي صاحب البوفرططو وحمروش بوظلالة هكذا كانت السياسة في مخي الصغير، أما الآن فلا أذيع سرا إذا قلت إن ازدحام الأسماء صار معضلة وكلها أسماء مقرفة لا تكاد تعرف هذا من ذاك وحينما تتذمر أو تشتكي يقولون لك ''هذه خدمة السرابس''! كم كانت الطفولة بريئة وجميلة حينما كان أبطالها المتنبي وأبو نواس والماغوط ونزار، وكم هي تعيسة أيامنا التي أصبح أبطالها أبوجرة وبلخادم وجاب الله وبونجمة وحتى نعيمة صالحي صاحبة نظريات الحلال والحرام.