أصبحت أشعر “في السنين الأخيرة" أن كل ما حولي يعتدي على ذوقي وهدأتي، ربما لكوني إنسانا قديما منتهي الصلاحية، بالمعايير الحالية التي نقيس بها التقدمي والرجعي والكلاسيكي والحداثي. لا أستسيغ، على سبيل التمثيل، كلمات الأغاني الجديدة، رغم أن موسيقاها فرضت نفسها دوليا (الشاب خالد، مامي، الشاب فضيل، بلال...) وهذا أمر رائع لا ينكره إلا جاحد: التوزيع والموسيقى والآداء، وما يحيط بالأغنية من لواحق تم تطويرها في فترة وجيزة، وبذكاء حسب المتخصصين. بيد أن الكلمات، أو القصائد، إن جاز الحديث عن القصائد، لا تتوفر على أدنى شروط الفن، لا بلاغة ولا استعارة ولا حياء. إنها كمن يضع في القدر شيئا من الحمص والعدس والحديد والتراب والورق والحجارة والقصدير والبرتقال والقماش وقنينات الجعة، إضافة إلى قليل من الطماطم ومبيد الحشرات، مع شيء من الفلفل والزبدة والمفرقعات والكهرباء: وتلك أغنية من أغانينا التي تخدش الوجه كالكلب والقط وكالسعار المتقدم. إنني حزين لإحساسي بأننا لا نصنع فنا يليّن المحيط ويسهم في تطوير الجمال، في ترقية الحواس كلها. بل إننا، وفي أغلب الأحيان، نسعى من حيث لا نعلم، إلى نشر العنف وقتل الفضيلة البشرية. ولا أدري إن كانت هذه الأغاني العنيفة، الفظة والفجة والسوقية السافلة، المليئة بالأنياب والمعدات، مؤهلة لتمثيلنا عربيا ودوليا ومحليا كذلك، ما عدا إن كنا في مستواها، أي عبارة عن أكياس ونخالة وقريصات وخشيبات، وما تيسر من الحمق والجهل. أما إن لم نكن كذلك، فإن على هذه الأغاني التي لا أصل لها، أن تراجع كلماتها ومتنها وبنيتها وصورتها قبل أن تخرج إلى الشارع الذي شوهته بحضورها الناشز. إنها تبدو لي تعيسة ومخجلة وبليدة وفارغة.. فارغة جدا وليست ذات قيمة. لا أقصد الموضوعات لأنها مشتركة، بل طريقة الكتابة، هذا الصخب العظيم الذي يدوي هنا وهناك، بتهور وفجاجة، ودون ضوابط فنية وأخلاقية تحدّ من تبوأ البؤس القادم من الحانات والملاهي السيئة السمعة. أصبحت شخصيا ضحية المحال والمقاهي والطرق والسيارات والأعراس التي تنبعث منها هذه الأغاني وتذهب إلى الجامعة.. إلى الجامعة التي غدت من المريدين والمريدات. وعلينا أن نتصور الجامعة وهي تتخذ هذه الأغاني مرجعا ومتكأ. لا بد أن هناك خللا ما. لقد هوت الجامعة إلى أسفل سافلين، كالأغنية تماما. قد نجد مبررات لهذا الانحطاط، لهذا الاستهتار بالسمع، بالفن والجمال، بالكتابة، بالذوق، كأن نقول، كما يقول أنصار الشعبوية البدائية: إنهم يعبرون عن الواقع. لكننا نطرح السؤال الخالد: ما قيمة الفن إن كان امتدادا آليا للمحيط؟ إن لم يكن أرقى؟ ما عدا إن كان أصحابه لا يستطيعون تجاوز ذلك الحد، حدهم الأقصى. وقد نتحجج بالجانب التجاري، بالسياق التاريخي والثقافي، بحاجة المجتمع. لا. لم تعد هذه الحجج مقنعة. الأغنية الحالية في مستنقع حقيقي وعليها أن تتطهر، أن تحترم الشعر على الأقل. أتذكر أن الفنان محمد بوليفة كان انتقائيا، صارما جدا في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وكان لا يؤدي الأغنية قبل غربلة الكلمات والأبيات واستبدال هذا بذاك، وكان يعرف الخلل دون العودة إلى الأوزان، وتلك تجربة أخرى في الأزمنة الأخرى. وإذ أعود بخفي حنين إلى الماضي، أجد في الذاكرة وفي مرمى البصر ناسا كبارا، سواء في الأغنية العاطفية أو السياسية أو الوطنية أو في المديح الديني، بما في ذلك أغنية الراي: محمد المازوني، محمد بلخياطي، الريميتي، بڤار حدة، بلقاسم بوثلجة... يا لتلك الأشعار الخالدة: عبد الحميد عبابسة في ملحمة “حيزية" ورابح درياسة في رائعة “راشدة"، عيسى الجرموني في “حدة يا حدة"، وفي “أحنا شاوية لا تقولوا دلوا، جينا حواسة ولولو". سلوى، نورة، أحمد صابر، خليفي أحمد، الحاج محمد العنقى، بوجمعة العنقيس، الهاشمي ڤروابي، الحاج محمد الطاهر فرڤاني، شاعو عبد القادر، دحمان الحراشي، عبد الله المناعي، الهادي رجب، سعداوي صالح، بارودي بخدة، معطوب لوناس، إيدير، آيت منڤلات، كمال مسعودي، سليمان عازم، وراد بومدين، شريف خدام، الشابة زليخة، أحمد وهبي، بلاوي الهواري، هواري بن شنات، كاتشو، فؤاد ومان، سعاد بوعلي، أحمد فتحي، علي معاشي... كم هو عدد هذه الأسماء التي ركزت على طبيعة الكلمات، قبل الأموال، وقبل الأغنية الساندويتش، بمفهومها المتدني. الأغاني “الوطنية “نفسها غدت مسيئة للوطن، لأنها استعجالية وسوقية، وبإمكاننا إقامة موازنة بين ما غناه عبابسة وخليفي أحمد ودرياسة وبوليفة ومناعي والعنقى وما يصرخ اليوم، وهو الفعل الصحيح، إنهم يصرخون، لأن للغناء أسسه وأخلاقياته، أما الصراخ فلا قوانين تضبطه. أجد اليوم في هذه الحياة الجزائرية صراخا معتبرا ولا أسمع طربا. الربح السريع هو الجوهر. الأموال... ثم الأموال. وجهد في الدرجة الصفر. هناك مركزة للمادة، لأن المغنيين عادة ما يكتبون ما يشبه الكلمات ويقومون بالتوزيع والأداء. لذا ساخ الغناء ولم تبق فيه إلا الألحان. كان المطربون يذهبون إلى الموروث، إلى دواوين الشعر وحفظته ويقضون وقتا في التنقيب عن القصائد التي تؤدي المعنى بأساليب مناسبة. وكانوا يكتبون بتؤدة تأسيسا على التجربة. يتناقشون قبل طرح الأسطوانات والأشرطة في الأسواق. أما اليوم فقد أصبحت معظم الأغاني أسواقا، كل شيء متوفر فيها: البيرة، الويسكي، الشامبوان، جيل دوش، الهوندا والبلوندا، الطورو والأورو والباجيرو: شركة قادرة. نصوص قادرة على تلويث البيئة وكسر العظام، مع استثناءات رائعة، على الأقل كنسيج حكائي له مقوماته الفنية، وقد تكون “الأزرق سعاني" للشاب مامي أحد هذه النماذج الجيدة، ولو أنها أخذت من الموروث الذي تم حبكه بأناة. ما ضرّ لو عاد هؤلاء إلى كتاب الكلمات، وهم كثر، ولنا في البلد آلاف القصائد الغنائية التي تشرف المطرب وفنه. لقد غنت وردة لسليمان جوادي، كما فعلت زكية محمد وهيام يونس، وكما فعل الأستاذ محمد بوليفة والفنان مصطفى زميرلي وثلاثي وحدة المغرب العربي وغيرهم. كما غنى البار عمر ورابح درياسة ونورة تحفة راس بنادم للأخضر بن خلوف. وفي موروثنا عبر الأجيال ما يكفي لتطعيم الأغنية بما يحفظ ماء الوجه. وهناك في دواوين الشعر الشعبي والفصيح أشعار نيرة. لكن هذه الفكرة تبدو مثالية وخرقاء لأننا ندفع بالذوق إلى الحضيض بتجييش الكلمات السوقية، ولا وقت لنا للقراءة. لا وقت لنا لتربية أنفسنا وكسب المال الحلال ما دام الحرام مشروعا. وبعد سنين: بعد سنين سنصل إلى الخراب الأعظم. وهذي إحدى تجلياته الأولى. علينا أن نقرأ هذا: “أيتها الوردة والريحانة والياقوتة والسلطانة / والشعبية والشرعية بين جميع الملكات / يا قمرا يطلع كل مساء من نافذة الكلمات / يا أجمل وطن أولد فيه وأدفن فيه وأنشر فيه الكتابات". الكلمات لنزار قباني والأداء للعراقي كاظم الساهر. ونحن؟ كان في نيتي أن أسوق أمثلة عن الأغنية الحالية، لكني استحييت منكم أيها القراء، وخفت أن يصاب قلمي بالعدوى ويدفعكم إلى تناول كل المهدئات اللازمة للتخلص من المثال. من المؤسف أن تتعامل الأغنية معنا بهذا الاستخفاف والاحتقار رغم تفوقها في اللحن والموسيقى، وهو شيء يحسب لها. وما عليها كثير. وإني لأتصور هؤلاء يستمعون إلى أغانيهم عندما يبلغون الستين، أو عندما يحجون ويتوبون، أو عندما يكونون جالسين في بيوتهم رفقة أخواتهم وأمهاتهم وآبائهم وأبنائهم... أتصور هذا المشهد المأسوي الذي يستحي منه الشيطان. مع ذلك ما زال هناك من يهذب كلماته. ثمة في هذه الغابة الفنية الموحشة من يفكر في الأخلاق العامة وفي المستقبل وفي التوازن البيئي، وفي الأغاني المكررة ملايين المرات... من أجل المال. فقط. المال الفاسد بطبيعة الحال، وبتزكية تكاد تكون عامة. أما الآن، فلا مجال للحديث عن أشعار سي محند أمحند وبن ڤيطون وعبد الرحمن المجذوب وعبد الله بن كريو ومصطفى بن براهيم وجيلالي عين تادلس وياسين أوعابد وقادة دحو وتوفيق ومان وأحمد بوزيان... على هؤلاء أن يقفوا في الطابور. عليهم أن ينتظروا كثيرا. أما الذين يكتبون بالعربية الفصحى!!! أما الآن أيضا: مرحبا بالنكسة العامة.