كثيرة هي المصطلحات في تاريخ البشري التي أحدثت ضجّة، أو بالأحرى فزعاً عارماً لأنّها جاءت لتُحدِثَ شرخاً في نظام الأعراف و العقائد السائدة· فكلّ مصطلح جديد هو بمثابة الدخيل الذي يؤلّب ضدّه المجتمع المعرفي الذي ينبجس فيه· كلّ ولادة جديدة في المفاهيم و المصطلحات قد تحدث المفاجأة بأن تلد ما يسمّيه ميشال دو سارتو الوحش اللغوي· و الواقع أنّ الوحوش اللغوية أو المفهومية عديدة في تاريخ الفكر البشري و أثارت الرعب في نظام المعرفة· و الوحوش مآلها القمع أو الإقصاء أو السجن، بمعنى سلوك حذر في تفاديها أو حبسها· لم يكن تاريخ الفكر البشري سوى الحذر في كلّ مصطلح جديد جاء ليخربط المنظومة المعرفية التي تُرسى عليها كلّ ثقافة· نجد هذه الإشارة مثلاً عند توماس كوهن (Thomas Kuhn) صاحب كتاب بنية الثورات العلمية (شيكاغو، 1962)، عندما درس ما يمكن تسميته نفسانيات المعرفة العلمية، بمعنى الهواجس أو الشكوك التي يبديها المجتمع العلمي تجاه كلّ فكرة أو نظرية لا تخضع إلى إجماع· لأنّ من طبيعة المنظومة المعرفية أن تحافظ على التقاليد و أن تدافع عن النموذج (paradigme) الذي تعتبره المعيار الحقيقي في الممارسة العلمية· لكن من طبيعة المنظومة أيضاً أن تحتمل التناقضات أو السجالات و التي هي حصيلة القوى المتعارضة أو الأهداف المتقابلة أو المصالح المتعاكسة· وهذا التناقض الداخلي يؤدّي إلى ما يسمّيه كوهن بالأزمة (crise) وعلى إثرها تتفكّك الوحدة السابقة لتقوم على أنقاضها وحدة جديدة· كوهن يصف بشكل غير مباشر عمل /التفكيك/ كاشتغال داخلي، متواري، خفيّ· و طبعاً لم يكن كوهن تفكيكياً أبداً و إنّما كان مؤرّخاً للمعرفة العلمية· الغرض من الإشارة إلى توماس كوهن هو نقد الوحدة المتماسكة، في شكل مؤسّسة علمية أو فكرة سياسية أو عقيدة دينية، التي تدّعي لذاتها التماسك أو الإتّساق، بينما يفاجئها التشظّي من حيث لا تحتسب، بمعنى التناقض الداخلي الذي يجعل من المؤسّسة العلمية حلبة للصراع من أجل الإمتيازات أو السلطات، و من الفكرة السياسية حقلا للنزاع الإيديولوجي أو القبض على مقاليد الحكم، و من العقيدة الدينية مسرحاً للإقصاء أو إحتكار الرموز أو التعاليم· بهذا المعنى يشتغل /التفكيك/ في التواري أو الخفاء، لأنّه يقرّر بالطابع المتضارب للحقائق· فهو يشتغل هنا على مستوى اللا شعور، لأنّ علاقات القوى في الهيمنة أو الإحتكار هي دوافع لا شعورية· لكن ماذا يصبح التفكيك عندما يُمارَس شعورياً؟ من الأولى أن نقرأ /التفكيك/ قراءة /عربية/، ليس فقط على مستوى التعبير و لكن أيضاً على صعيد المفهوم، لأنّ /البيان/ يحجب في الغالب /البرهان/، فنحكم على المفردة في شكلها البرّاني و كأنّها الوحش الذي ينبغي التوقّي منه· و الأمر الذي دفعني لكتابة هذه المقالة حول التفكيك هو اطّلاعي على دراستين إلكترونيتين، الأولى عنوانها الفكر التفكيكي و رفضه لكاتب مجهول· و طبيعة الكتابة تبيّن أنّ صاحب هذه الدراسة من الإسلاميين المتطرّفين الذين يجعلون من البيان الفقهي أو الكلامي حرباً على كلّ ما لا يمت إلى نرجسيتهم الدينية بصلة، فنقرأ بتعجّب: / و يا قوم من ينصرنا من دون الله إن فكّكنا عقيدتنا و أضعفنا شريعتنا و دمّرنا جذورنا و أصولنا/· والدراسة الثانية، عنوانها /وقفة مع التفكيك/، و هي أكثر تعجّباً لأنها تناقش المسائل الكلامية حول وجود الله و إمكانية معرفة ذاته أو لا، كما إنتشر ذلك في العصر الوسيط الإسلامي مع علماء الكلام (المعتزلة، الأشاعرة، الماتريدية، إلخ) أو الفلاسفة (الفارابي، الغزالي، إبن رشد) أو الصوفية (إبن عربي، الجيلي، داوود القيصري، حيدر آملي)، و هذا النقاش له منطلق /شيعي/ لأنّه يردّد غالباً أسماء /العصمة/ و /الإمام/ و /جعفر الصادق/، و /مهدي الإصفهاني/، إلخ· نقرأ مثلاً : / إن حقيقة معنى الغيرية بين الخالق و المخلوق التي يثبتونها هؤلاء المفككين لا يكون شيئاً غير نفس الشبح و الصورة التي تُملأ عندهم من حقيقة وجود الخالق /، و بالمفكّكين يقصد الكاتب المجهول /أصحاب الفلسفة و العرفان/، و في فقرة أخرى نقرأ ما يلي: / و التفكيكيون يخضعون لكل هذه العقائد الواضحة البطلان و لكنهم يَسِمون الأعيان الثابتة بالعلم بلا معلوم/· هذا يدفعنا إلى التساؤل حول مسوّغ هذه الدراسات التي تستعمل مفردة /التفكيك/ لنعت قراءات أو نظريات /تدميرية/ وافدة من الغرب كما في الدراسة الأولى، أو لوصف فلاسفة و متصوّفة العصر الوسيط على أنّهم /أهل التفكيك/ في الدراسة الثانية· أليس وسم فلاسفة أو متصوّفة الإسلام الوسيطي بال/تفكيكييين/ هو أمر /مخالف للزمن/ (anachronisme) لأنّه يستعمل مفردة /التفكيك/ للدلالة على سجالات كلامية أو فلسفية أو عرفانية غير معاصرة؟ و خصوصاً إستعمال مفردة /التفكيك/ للتشنيع بنمط في التفكير يخالف الفكر الشيعي في بداياته التكوينية؟ لا شكّ أنّ هذه الدراسات تستعمل مصطلحاً في غير موضعه و لغايات إيديولوجية لا تمت إلى المصطلح بصلة· المصطلح هو مجرّد ذريعة في التهويل بطوائف أو مذاهب معارضة· فلماذا اختيار مصطلح /التفكيك/ في التشهير و القدح بتيّارات فكرية مختلفة؟ من الملاحظ أنّ الدراسة الأولى تستعمل /التفكيك/ و /التدمير/ و /الإضعاف/ على سبيل الترادف، و الدراسة الثانية تستعمله في نقض الأفكار الفلسفية و العرفانية للقرون الخالية· فلماذا أصبح /التفكيك/ وحشاً لغوياً يثير القلق و الفزع؟ و بأيّ معنى بَيانُه حَجَب بُرهانَه؟