هذا عنوان كتاب الإعلامي علي رحالية الصادر عام 2011 عن متيجة للطباعة. وقد حصل أن اشتغلنا معا في الخبر الأسبوعي. وكانت صفحته من أجمل الصفحات، بالعودة إلى ذائقتي وخياراتي، ليس إلا. لقد تعلمت كثيرا من هذا الصحفي القدير الذي لا يكتب من بيته عن أحداث تستدعي الاتصالات والمساءلة والموازنة والنباهة. وتمنيت أن تصدر مقالاته في مؤلف، شأنها شأن مقالات عبد العالي رزاقي وحبيب راشدين ومحمد الهادي الحسني وآخرين، دون أي اعتبار للانتماءات، لأن القارئ بحاجة إلى هذه الخبرات المتباينة لتفادي الأحادية واليقينيات المضللة أحيانا، ليقترب من النواة والمعنى. وجدت في هذا الكتاب ما لم أجده في عشرات الكتب التي تدعي الصدق وامتلاك الحقيقة، ولعل أهم شيء يميزه هو صدوره عن شاب فضّل المعاينة على الحفظ، ولئن أثار فيه قضايا استراتيجية تتعلق بمجتمعنا وتاريخنا وسياستنا وحالنا، فلأنه توخى الجرأة والمغامرة، دون أن ينحاز إلى طرف، على حساب طرف آخر، مهما كانت توجهاته. لم أعثر في الكتاب على مفاضلات ذاتية تمس بمصداقية المقال. ثمة عروض ومقارنات تكشف عن التناقضات الواردة في تصريحات الآخر/الآخرين، وهي صادرة عن قناعة واحدة: البحث عن تجليات الحقائق ما بين السطور، وما بين العلامات، دون إبداء الرأي في كثير من الحالات. وهذي منهجية تنم عن احترافية حقيقية، خاصة ما تعلق بالمسائل التاريخية، وبالمسكوت عنه في ما ينشر عندنا، وفي ما يقال للأجيال التي تبحث عن نفسها في هذه الفوضى التي لا مثيل لها، أو تحت أنقاض نفوسنا الخربة التي لا حظ لها مع نفسها ومع الآخرين. الكتاب إياه ليس تاريخيا، بالمفهوم العلمي للكلمة، وليس اجتماعيا أو نفسانيا أو سياسيا أو ثقافيا أو أدبيا. إنه هذا وذاك، تنويعات وتوفيقات أسلوبية أنتجت نموذجا خاصا يمكن أن نختلف في تحديده وتصنيفه وفق الأجهزة المفهومية والمصطلحية التي نمتلكها. لكنه مهم، وضروري في مكتباتنا المنزلية، لأنه يستحق ذلك، وقد يكون، من منظوري، أحد أهم الكتب التي اهتمت بالشأن الجزائري بجرأة وعناد. لقد غطى الكتاب عدة مساحات، من تموقعات مغايرة، و بموضوعية “فاخرة" إن نحن احتكمنا إلى الموضوعات والمضامين، دون الأساليب والحقول المعجمية وقضايا النعوت المستعملة بكثرة، بداية من العنوان، مرورا بالمتون قاطبة، وهي نعوت وظيفية في سياقها، ومقصودة، وغاية من الغايات في بعض المقالات (100 مقال في 500 صفحة). للإشارة فإن الكتاب قسم إلى خمسة فصول: سياسة.. وبوليتيك/تكفير... ترخيص... تبغيل... وبوليتيك/تاريخ... وبوليتيك/ثقافة... وبوليتيك/تخاريف... وبوليتيك/، إضافة إلى إهداء وكلمة بمثابة مقدمة. ويمكن لهذا الإهداء أن يوحي بالمسار العام للمقالات التي لا تداهن، لا تختبئ خلف التردد ولا تنمحي أمام أبسط عقبة، لأنها ترى الحقيقة ماثلة أمام الأعين التي لا تريد رؤيتها، أو تراها وتختبئ من الظلام في الظلام خوفا من لا شيء ومن كل شيء. كما أن الفصول الخمسة تشترك في كلمة “بوليتيك"، النواة القاعدية للكتاب. وإذا كان هذا اللفظ الفرنسي يعني السياسة، فإن تدرجه يحمل معنى آخر في عاميتنا: الكذب، الهراء، المسخرة، تضييع الوقت، النفاق، الرياء، وما إلى ذلك من دلالات سلبية، وهو يعكس تماما ما ورد في المتن: العبث الأعظم بالقيم والناس والتاريخ والمدرسة والجامعة العقل والوطن والوطنية والدين والشباب والكرامة البشرية والثقافة، أي كل ما من شأنه التأسيس للفعل الحضاري... ذاك هو “البوليتيك" وبصيغة المذكر، عكس ما هو متفق عليه في اللغتين المعياريتين. قد يقول قائل إن هذه المسائل متواترة، معروفة لدى العام والخاص، بيد أن مقالات علي رحالية مختلفة كثيرا، وهذه إحدى ميزاتها. أما الاختلاف الأول فيكمن في التوثيق المدهش، أي أن القارئ سيجد نفسه أمام مقالات مؤثثة على عدة أصعدة: الأحداث، التواريخ، الأماكن، الأشخاص، والمزدوجات عندما يتطلب الأمر ذلك. وهذه المزدوجات المثيرة تحيل على معرفة وموضوعية، وما إلى ذلك من الأكاديميات التي نفتقر إليها في إعلامنا، أو في بعض هذا الإعلام الذي يحتاج إلى ترقية جذرية. وأما الاختلاف الآخر فيكمن في القدرة على العرض والتحليل والمقارنة والإحالة، قبل بلوغ النتائج، ما يعني أنه تفادى المعياريات والأحكام المسبقة، لذا تبدو المقالات منطقية ومقنعة من حيث قوة العلاقات السببية، ومن حيث الجوانب المنهجية التي اتكأ عليها لتقديم الخبر ونقيضه، والخطاب والخطاب المقلوب، ثم النتيجة، أو النهاية المفتوحة في بعض الآلات. وتتمثل النقطة الثالثة في المصادر والمراجع المتنوعة، وهي كثيرة ومتضاربة. هذا الصحفي لا يلعب لأنه يقرأ، ويعرف كيف يقرأ ولماذا. أي أنه يفعل ذلك بنباهة، وكشخص مسؤول، دون أن تتدخل ميولاته السياسية، إن كانت له ميولات، لأني لم أتبينها في مقالاته، على اختلافها، وهذا أمر غاية في الأهمية لأنه يجعل القارئ أكثر اطمئنانا، وأكثر اقتناعا بناقل الخبر. مع ذلك فإنه من السهل أن نكتشف بأن هذا الإعلامي معارض. لكنه لا يعارض سلطة معينة، أو حزبا معينا، أو جماعة أو طائفة، إنما يعارض صناعة الشر والفساد والسرقة والتجهيل والتهريب والجريمة والكذب والعبث والتزييف، وكل ما من شأنه أن يقود البلد إلى الخراب، وهي الكلمة التي وردت على غلاف الكتاب. إنه يعارض الجميع، ويعارض نفسه بسخرية ممتعة فنيا. تؤكد هذه المعارضة أن علي رحالية من أكبر المدافعين على تطبيق القانون، أي أنه ليس معارضا في نهاية الأمر ما دام يحتكم إلى الدستور ويبحث عن الحق، مثلنا، ومثل المسؤولين الذين انتخبناهم لتمثيلنا في البرلمان ومجلس الأمة والبلديات والدوائر ومختلف الأجهزة الأخرى. ما عدا إن كانت نيتنا بليدة، إن كان يجب فهم المسألة مقلوبة: اختيار ممثلين لترسيم الباطل وتقنينه. وإذا كان الأمر كذلك، فإن كل مقالات علي رحالية فاسدة وباطلة ومناوئة للمنطق والاقتراعات والدنيا والآخرة، ومن ثم ضرورة تفادي قراءتها لئلا تلحق ضررا بطمأنينة الأفراد ومستقبلهم، وبمستقبل طبقة الأوزون والطماطم وعلب المصبرات والورق. إذا كان الباطل هدفنا، وطريقنا الوحيد إلى الغد الأفضل الذي قد لا يأتي أبدا في الظروف الحالية والسابقة واللاحقة، وسياستنا الوحيدة، وفلسفتنا المثلى التي تقودنا إلى الوطن والله والجنة التي تبتعد تدريجيا، فلا داعي لقراءة “مواطن... لا ابن كلب" لأنه كتاب لا يؤمن بالباطل، بل يفضحه ويحاربه بداية من الصفحة الأولى، إلى غاية ما بعد الصفحة الأخيرة، لأن علي رحالية يكون قد استمر في الكتابة على البلاط والجدران والهواء والتراب والماء والقمر. إنني أتفهم غضب الصحفي علي رحالية و«تحامله" و«تجاوزاته" التي تتجلى في بعض المفردات والجمل والأفكار المثيرة، أو المفارقة للقوالب الصحفية المعهودة، ولو كنا في سنه ووضعه لفعلنا الشيء ذاته، بجودة أقل، وبرعونة أكبر، وبسرد مفكك، لأن سرد علي رحالية فيه وفرة من الفن والعبقرية والتماسك والقوة، وفيه ثقافة نفتقدها في كتبنا وفي جرائد كثيرة لا تولي أهمية لهذا الجانب المصيري في كتاباتنا التي تبدو شفافة وفقيرة في بعض الأحيان، أو في أغلبها. وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها لئلا نسقط في النزعات التبسيطية. ملاحظة: يخيل إليّ، تأسيسا على بعض ما ورد في الكتاب، أن هذا الصحفي ذاهب إلى القصة والرواية لا محالة، وسينجح في ذلك بالنظر إلى قدراته التخييلية المتميزة. وقد نربح الكاتب ونخسر الإعلامي، ولو وفق بين الإثنين لفعل خيرا. شكرا علي، وشكران إن أنت راجعت الطبعة الثانية، لأن ما نشر في الخبر الأسبوعي مختلف عما جاء في الكتاب، ومرد ذلك ظروف النشر التي أعرفها كاملة.كما أني أرى أنه من المفيد استخراج مجموعة من النصوص القصصية من الكتاب ذاته، مع بعض الترقيع، وستكون قصصا مهمة لأنها استثمرت في الحكاية والمتخيل والسرد والصورة والمعجم. مع هذا وذاك: أنا مع فكرة إعادة هيكلة الذاكرة والثقافة والماضي والحاضر والدقيق والهواء والملح والدواء والكلام والنخب والكذابين و«الشياتين" و«البوليتيك" والسلام عليكم وصباح الخير. ودمت مواطنا كما عهدتك. مواطنا وأكثر. وذلك أضعف الإيمان.