في عام 2009 ، وعلى إحدى المنصات الجزائرية القليلة التي اعتليتها في المهرجانات القليلة جدا التي حضرتها، تجرأت أن أقول شيئا صادما لم يرغب أحد بسماعه، ردا على حملة البكائيات والمرثيات والشعور بالظلم الذي كان الجميع يرى أنه يقع على الشاعر الجزائري من طرف نظيره الشاعر المشرقي ، كأن شعراء المشرق يحملون عصيا و"كلاشينكوفات" ويحرسون بوابة "الشهرة" وقلعة الإنجازات الشعرية الكبيرة ويمنعون الشعراء المغاربة من دخولها ، وهذا في حد ذاته تصوّر يشعرني بالسخرية ممن يجدون أعذارا "فضائية" لتبرير عجز المشهد الجزائري عن إنجاب "شاعر ظاهرة" يشغل الناس والعالم والتاريخ والجغرافيا. علينا أن نكون في النهاية منصفين لأنفسنا وللآخرين أيضا، فهذا الشاعر لم يوجد على مر التاريخ في مشهدنا الشعري، لا متنبي ولا درويش ولا نزار ولا سياب ولا ولا ولا ... !!! و من يدعي أنه يوجد لدينا شاعر له إنجاز حقيقي كإنجازاتهم ، يتحدى آلاف السنوات كالمتنبي ، أو يحمل قضية عظيمة كدرويش، أو يخترع لغته المتفردة كنزار، أو يغيّر في أسلوب الشعر كالسياب ؟؟؟ وفوق كل هذا سمع به كل العالم ...فهو إما "كاذب" يحاول خداع نفسه فقط لأن كل الناس يعرفون الحقيقة، وإما " مدمن حشيش" من نوعية رديئة ولا علاقة له بما يحدث في الواقع. الواقع إذن أنه : لدينا شعراء جيدون ربما في مختلف أنحاء الجزائر، لكنهم يعانون التهميش، ولا يذكرون إلا محليا في أغلب الحالات ولا يتذكرهم ويقرأ لهم سوى اصدقاؤهم في أحسن الأحوال، ولا يطمع السواد الأعظم منهم سوى في دعوة وفندق فاخر و طباعة ديوان على نفقة الوزارة . ❊ فلسفة الحياة هذه هي مأساتنا الشعرية في الجزائر، هناك نقص عظيم في "فلسفة" حياة الشاعر، في تأملاته، في رغبته من التنصل الذاتي والإنساني والتحول إلى كائن عابر للزمان والمكان. أما القصائد الجميلة التي يكتبونها فهي تخبأ في الجوارير مثل النساء الجميلات اللواتي يحبسن في زنزانة، فلا يراهن أحد ولا يعرفهن أحد ولا يتحدث عن جمالهن أحد. فغالب الشعراء في الجزائر ينتظرون أن يقرع الحظ بابهم ، ويقوم بالتوسل إليهم ليأتوا معه راكعا على قدميه، ساردا كيف هرب من سلطة "المشرق" وقطع العالم وجاء إليهم طالبا العفو والمغفرة على تقصيره وعارضا عليهم تاج "الشاعر الظاهرة" وعرش الملكية الحصرية للإنجاز الشعري.وهذا طبعا ما لن يحصل ابدا ! إن الشعر لا يتوسل أحدا، والحظ لا يتوسل أحدا، لهذا على كل منا أن يجد في نفسه القدرة الكافية على إيجاد طريقه بنفسه والذهاب إلى حيث يجب أن يذهب بنفسه دون الإعتماد على أحلام اليقظة التي يمدحها باشلار. لا يوجد شيء يأتي مصادفة، والانجازات الكبيرة تنتزع انتزاعا ولا تقدم كهدايا، ومعظم الشعراء الكبار لم يكن طريقهم مفروشا بالورود، بل إن كل من ذكرتهم سابقا منهم كانت حياتهم عبارة عن مجموعة من الكوارث الطبيعية والمآسي المحزنة ، ولم تقدم لهم شاعريتهم في جورب تحت شجرة عيد ميلاد ذات أمسية طيبة مرّ فيها بابا نويل على بيوتهم. ❊ إنجازات ولدت من رحم المعاناة كل الانجازات الشعرية الكبيرة جاءت عبر معاناة أصحابها، ومن خلال انصهارهم في مراجل التجربة، والتأمل والبحث الدائم عن تطوير أنفسهم، كلهم قطعوا مسافات الزمن على شوك الألم والتضحيات واتخذوا فلسفاتهم من خشب غابات التعب, وكلهم ذهبوا إلى غاياتهم ولم ينتظروا أن تأتي وزارة الثقافة إليهم حاملة عقود الطباعة وتذاكر الطيران وحجوزات الفنادق. إن فكرة استحواذ المشرق على الريادة الشعرية ليس لها علاقة بالحظ أو الدعم أو غير ذلك، إن لها علاقة بتقاعسنا نحن عن بناء أنفسنا، وبتقاعس الصفحات الثقافية والإعلام الثقافي لدينا وعجزه عن صنع البروباغندا من جهة وعجز الشاعر عن فرض نفسه عليها من جهة اخرى، ولا بد هنا أن أذكر تلك الحادثة التي حدثت قبل شهرين حينما كنت في العراق، أقوم بتقشير البطاطا فوق صفحة جريدة عراقية، وبينما أنا منهمكة بذلك ألقيت نظرة على تلك الصفحة، فشدني العنوان، أزحت القشور ورحت اقرأ المقال الأول، ثم الثاني، حتى وجدت كل القشور على الطاولة والصفحة نظيفة تماما أمامي بسبب ما كانت تحتويه من مواد ثقافية هامة ومميزة تشد القارئ وتدافع بها عن نفسها أمام فكرة إلقائها في القمامة. وقد احتفظت بتلك الصفحة إلى يومنا هذا، بينما ما من داع أن "انشر غسيل" ما ينشر من "أخبار" في غالبية صفحاتنا الثقافية، من ضعف في اللغة وفي الأسلوب ومن تفاهة في الطرح، أما مقالات كبار كتابنا فطبعا لا وجود لها محليا، ويجب قراءتها في صحيفة "مشرقية" ، و هذا ليس ذنب الكاتب ولا ذنب الصحيفة المشرقية. ❊ قضية ذاثية وليست ثانوية إننا في الجزائر ما نزال نتعامل مع الشعر كقضية ثانوية، وكوسيلة لكتابة اسم شاعر أمام اسماء معظمنا، وليس كقضية وجودية ذاتية تعتبر هدفا بحد ذاتها، ما نزال نتحدث عن الشعر كأنه "سلوك جمعي" يخضع لمعايير علم الاجتماع، وكأننا فرقة كشافة نطمع بالرحلات والدعوات والنياشين، ومازال شعراؤنا يتناحرون ويتقاتلون ويتدافعون ويتشاتمون على قضايا تافهة لا علاقة لها سوى بتنظيمات الملتقيات والاختلاف في وجهات النظر والسرقات الأدبية التي تطال قصائد تافهة، ومازال الصحفي في الصفحة الثقافية يحلم بتحويله إلى صفحة "أوجه" ، ولا يحضر أمسية من أولها لآخرها إنما يكتفي ببضع دقائق ليقوم بكتابة الخبر سريعا، خبر عادة يوجد فيه اسم شاعر لا يعرف عنه شيئا آخر عدا اسمه ، يحدث هذا في حين أن العالم أصبح مفتوحا، و لم يعد هناك عذر لأي احد في اتهام الانغلاق و الواسطات وقلة الحيلة : فب "ضغطة زر" اصبحنا نصل إلى كل العالم، واولئك الذين كانوا يوما ينعتونني بال"شاعرة الانرنتية" ساخرين، اصبحوا مؤمنين جدا بالانترنت و أصبحوا من مريديها لعل يحصلون على جزء من كعكة الشهرة اللذيذة !!! إذن في الأخير فإن اجابة سؤال : لماذا لا يصل الشاعر الجزائري إلى العالمية ؟ تكمن ببساطة في كون أغلب شعرائنا يحتاجون إلى فيتامينات ومغنزيوم لمقاومة الكسل وتقوية النظر لعل يرون "الحقيقة" و"الطريقة" يوما.