يحوز المجاهد بن عزوق أحمد، من دوار أوزلاقن، قرية تملوين، على “كنز" من الوثائق الثورية يحملها معه كلما نظمت مناسبة تاريخية في متحف مؤتمر الصومام، حيث اجتمع الثوار ليريهم أنه مازال أمينا على التركة. بحذر شديد تصفحت “الجزائر نيوز" بعض المحاضر العسكرية التي كان يرسلها الضباط إلى قائد الناحية الثالثة سي محند سعيد، لكن أسر لنا أنه يستحيل أن يسلمها لأحد إلى أن يفارق الحياة. كانت السماء ما تزال تعد بسحب بيضاء مسالمة، إلى أن نصل آخر قطعة من الطريق المزفت، ونسلم أنفسنا لأرض أخرى حيث تبدأ الأرض في التصاعد نحو جبال الصومام. عشية الفاتح نوفمبر كان الاستعداد للرحلة باكرا، تحسبا لطريق مزدحم بين بلديات ولاية بجاية، التي تقدم للزائر مشاهد متناقضة من الجمال والقبح. فلولا الطبيعة السخية، التي تركت أشجار الزيتون تنفجر خيرا هذه السنة، وحبات الرمان المتماسكة في غصنها رغم ثقل عسلها، اقترف الإنسان البجاوي جريمة في حق بلدته المجاهدة. بيوت غير مكتملة البناء، بأشكال مربعة اصطفت أمام بعضها لتشكل شارعا “استعجاليا" يمر منه المسافرون من تيزي وزو إلى بجاية أو من البويرة إلى بجاية، مصانع صغيرة لا تعرف ماذا “تطبخ" بداخلها، مساحات لا متناهية من جامعي بقايا الحديد والآلات كونت في النهاية جبال صدئة، هجرها الأخضر فلم ينم حولها وكأنه يعلن براءته من الكارثة. لم تعد حاويات مؤسسة النظافة تصلح لشيء إلا لحرق بعض الفضلات المنزلية، التي فضّل أصحابها إلقاءها في أي مكان. كان عسيرا أن تتخلص من شعور القلق وأنت تزور بجاية في عمقها، بعيدا عن البحر الأزرق الذي يغريك ببريقه، وينسيك ازدحام السير، فتصبر جميلا وتأمل في الخلاص.. كان الطريق من قلب عاصمة الحماديين صوب قرية إفري التاريخية بعمر خمسين كيلومترا تقريبا. لم تنجح خطتنا الصباحية في تقليص المعاناة. كان علينا أن ننتظر منعطفا صغيرا، على زاويته لوحة كتب عليها اتجاهات متعددة، أذكر منها أزلاقن. قرية سأكتشف روادها لاحقا.. بدأ المنظر يتغير، السيارات تقل عددا، سكان ينزلون ويصعدون في هدوء. منازل تهديك أغصان مائلة من الثمار، ونبات متسلق احتفظ ببعض زهره، أما المنعرج فكان حجة ليضيع البصر في الأرجاء، وتكتشف أنك كلما صعدت إلى الجبل، كلما سلمت قلبك له. تماما مثلما فعل عبان رمضان وكريم بلقاسم والعربي بن مهيدي وعمر أوعمران ولخضر بن طوبال، ينما اختاروا تلك العزلة اليقظة، ليجلسوا حول مائدة بسيطة ذات يوم من 20 أوت 56، في بيت من طين ما زال متينا بفضل “أسالاس" (عمود) ثبته الأجداد بحزم وصدق في الأرض. حضر إلى إفري نخبة من المشاركين في الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للمسرح ببجاية، من لبنان والعراق ومصر والأردن والدنمارك، عاشوا لحظة تاريخية لا تصدق عند الوقوف أمام مائدة تكاد تلامس الأرض، ومقاعد خشبية حددت أجزاءها بفأس عتيق، حملته يد جزائرية كانت تعيش تحت قهر الاستعمار الفرنسي. كان مفهوم الثورة بالنسبة لهؤلاء الضيوف الذين يناقشون في الملتقى العلمي للمهرجان وجود الثورة والالتزام في المسرح عموما، مفهوما مغايرا مختلفا عن “ربيع عربي" راهن، بحكم القضية والمآل، وما زاد الهنيهة حاسمة، هي وقوفهم وجها لوجه أمام مجاهدي ومجاهدات المنطقة الثالثة، رجال في كامل أناقتهم، ونساء بعيون صافية تلبس ألوان الطبيعة، وتتكلم بطلاقة عن حقبة عزيزة على القلب. لم يكن الجميع يفهم اللغة الأمازيغية التي روت بعض المواقف الثورية في جبال جرجرة والصومام، في أزلاقن وتعشاش، في تملوين وأكفادو، لكن الجميع التزم بالإصغاء، وحاول الفهم باحثا عن ترجمة للمعنى، فكانت الثورة الجزائرية أمامهم وفي قلب البيت البسيط، حيث انعقد مؤتمر الصومام لحظة مهربة من الزمن التحرري. المجاهد بن عزوق أحمد.. الأمين على وثائق الثورة تسلل بهدوء بيننا ليبلغ قلب الحلقة التي شكلها الحضور حول نجل الشهيد محند السعيد، قائد الولاية الثالثة، ليحدثه عن نضاله وإصراره، ويخبره أنه بحوزته مجموعة وثائق تعود إلى السنوات الأخيرة للثورة، وهي عبارة عن محاضر اجتماع وتقارير كانت ترفع إلى القائد والعقيد سي محند سعيد. وليثبت ذلك أخرج من كيسه البلاستيكي ملفا ملفوفا في ورقة جريدة قديمة، ثم في ورقة ثانية قبل أن تظهر الوثائق بلون أصفر بدأت تهلك وتتأثر بعوامل الحفظ والرطوبة. قال بن عزوق ل “الجزائر نيوز": “تحصلت على هذا الأرشيف من سيدة مجاهدة تدعى أكلي جوهرة، وهي ما تزال على قيد الحياة، كانت محل بحث وتحقيق، فاضطررت للاختباء، وكنت متطوعا وعرضت عليها اللجوء في بيتي الصغير في قرية تملوين"، كانت هذه جوهرة مكلفة بنقل هذه التقارير إلى قيادة جبهة التحرير، لولا انكشاف أمرها على حين غفلة. ولتخليصها من الحمل استلم عنها بن عزوق تلك الأوراق التي بقي بعضها بحوزته: “هي تقارير عن مجريات الحياة العامة في الولاية الثالثة في سنتي 1960-1961، منها ما يتحدث عن ضرورة تكثيف نشر الملصقات لتحفيز الناس على الصمود، أو جرد لأسماء المعتقلين السياسيين"، ما يربو عن سبعة تقارير متتالية، كان يلفها المجاهد في ورقة جريدة بالية، ومن بينها استطعنا قراءة إحداها تتحدث عن مبادرة وقف إطلاق النار في 3 جوان 61، وفيها نقرأ دعوة إلى مواصلة المواجهات وعدم تصديق أي دعوة من قبل الحكومة الفرنسية ولا ديغول الذي سعى لمراوغة الحكومة المؤقتة والشعب الجزائري، ليفوز بمزيد من الوقت للقضاء على الثورة. سألنا المجاهد هل هو مستعد لتقديم هذا الكنز إلى الجهات المعنية، فأجاب: “إذا أردتم نسخا عنها فسأنسخ لكم ما تريدون، أما أن أتخلى نهائيا عنها فلا، عاهدت نفسي على الاحتفاظ بها إلى أن أموت..". بكثير من الحب سارع بن عزوق لإخفاء “ثروته" بعد أن حاولت إقناعه أن تلك الوثائق قد يسوء حالها لو بقيت في بيته، ولم يتبرع بها إلى متحف إفري أو متحف آخر، إذ يشكل هذا المجاهد نموذجا لعديد المجاهدين في المنطقة، ممن يحتفظون بأشياء تتعلق بالذاكرة الوطنية، إلا أنهم يعتبرونها ملكا خاصا، علما أن ولا جهة رسمية أو علمية تقربت من هؤلاء الرجال والنساء لتقليب صفحات ذاكرتهم: “لم يتصل بي أحد ممن ذكرتي.. لن أتخلى على ورقة واحدة من هذا"، مشيرا إلى ملفه الذي عاد إلى الكيس البالي. جدير بالذكر أن بن عزوق أحمد انخرط في صفوف جيش التحرير الوطني منذ 1955، بعدما كان مهاجرا بفرنسا للعمل وإعالة العائلة: “لم أصغ لنصائح الذين طلبوا مني البقاء هناك بعد اندلاع الثورة، فسارعت بالعودة وبدأت العمل كفدائي أولا ثم مجاهدا في جبال الولاية الثالثة"، وقد شارك المتحدث في معارك عدة منها “إبوزيقن" (55)، “تعشاش" (57)، “تملوين" (57) و “أكفادو"... وغيرها. عالة أكلي محند أولحاج تتبرع بوثائق ل “أمغار" الجبل بادرت مجموعة من دور الشباب لولاية تيزي وزو (إيلولا، بني زكي وبوزقان)، رفقة نجل المجاهد الراحل سي محند سعيد، للتبرع ب 16 نسخة من كتاب يروي مسيرة قائد الناحية الثالثة، ودوره في تأجيج روح القتال والكفاح، وتدبيره الجيد الاستراتيجي، إضافة إلى لوحات تمثل بورتريه عن الرجل، ناهيك عن نسخة عن كل التقارير ومحاضر الاجتماع التي كان يشرف عليها، وهي تمثل مكسبا لمتحف الصومام، الذي يتدعم في كل مناسبة بمثل هذه التبرعات. ولمن لا يعرف “أمغار" (اسمه الحقيقي أكلي مقران متوفي في 2 ديسمبر 1972 عن عمر يناهز 61 عاما)، فهو الرجل الذي اختارته الولاية الرابعة للقيام بما كان ينتظره الشعب الجزائري منذ 132 سنة، ليرفع الراية الوطنية رسميا في سيدي فرج.. أما لقب “أمغار (العجوز) فقد رافقه طيلة كفاحه، أطلقه عليه رفاق السلاح، لا لسنه ولكن لكفاحه وحكمته وشجاعته ووفائه وحبه للوطن. بدأ الكفاح المسلح منذ سنة 1955 بكل جوارحه يرافقه في ذلك أولاده الثلاثة وتبرع للثورة بكل أملاكه وبمبلغ من المال يقدر ب 7 ملايين سنتيم في ذلك الوقت. خصاله المميزة مكنته من احتلال كل المراتب العسكرية في جيش التحرير الوطني . بعد ترقيته رائدا وهي الرتبة التي مكنته من أن يصبح النائب السياسي للعقيد عميروش في 1957، ثم عين على رأس الولاية الثالثة التاريخية خلفا للعقيد عميروش الذي استشهد رفقة سي الحواس في بوسعادة (جنوب البلاد) وهما متوجهان إلى تونس.