بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فأبطل الله به مسالك الجاهلية، وقضى به على معالم الوثنية، فاستأصل شأفتها، واجتث جرثومتها، وفي طليعة ذلك الكبيرة العظيمة، والجريمة الشنيعة، والمعصية المتوعد عليها بالحرب من الله ورسوله، ألا وهي جريمة (الربا)، فهيهات أن تُعمر الحياة وتشاد الحضارات وأناس يتعاطون الربا، ولا يرعون للإنسان كرامة، ولا للعقول حصانة، ولا للدين صيانة. ولذا فقد نهى الشارع الكريم عن (الربا) في محكم التنزيل، وحذر من عاقبته السيئة ونهايته المؤلمة فقال الله تعالى: “وأحل الله البيع وحرم الربا"، فالربا حرام كله، كثيره وقليله، بجميع أشكاله وأنواعه، وصوره ومسمياته، ولم يأذن الله في كتابه العزيز بحرب أحد إلا أهل الربا، فالناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود، والعجز عن تسديد الديون، وشلل في الاقتصاد، وارتفاع مستوى البطالة، وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات، وجعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس، فأصبح ناتج الكدح اليومي يصب في خانة تسديد الربا، ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا فقال جل وعلا: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" إنها بضاعة مزجاة، وتجارة كاسدة، وحرب خاسرة مع الله تعالى، حرب لا تجدي فيها السفن ولا الطائرات، ولا تنفع فيها القنابل ولا الدبابات، فهي مع خالق الأرض والسموات، الذي يقول للشيء كن فيكون، فكيف يخوض عبد ضعيف لا حول له ولا قوة حربا ضروسا مع من له جنود السموات والأرض، وله جنود لا يعلمها إلا هو، إنها حرب غير متكافئة من أقدم عليها من البشر فقد أهلك نفسه وأذاقها ألم العذاب ومرارة العقاب، وضنك العيش في الدنيا والآخرة. ولقد شبه الله عز وجل آكل الربا بالمجنون والمصروع عندما يخرج من قبره إلى محشره فهو يتخبط في الأرض لا يدري ما الخطب ولا يعلم ما الأمر كما كان يتخبط في مال الله بغير حق “الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" فأكلة الربا يقومون ويسقطون كما يقوم المصروع لأنهم أكلوا الأموال ربا وحراما في الدنيا، فانتفخت به بطونهم حتى أثقلتهم عن الخروج من قبورهم يوم القيامة فكلما أرادوا النهوض سقطوا، يريدون الإسراع مع الناس فلا يستطيعون. قال صلى الله عليه وسلم: “إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة" (رواه البخاري)، ولكن وللأسف: “وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين"، وقال صلى الله عليه وسلم: “كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به" (رواه البخاري) فالمال الحرام سبب لدخول النيران، والبعد عن الجنان، فقد جاء في الحديث عند الترمذي “لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام"، فأكل المال الحرام من ربا وغيره من أعظم موانع الدعاء، ألا ترى آكل الربا يدعو ليلا ونهارا فلا يستجاب له، تتراكم عليه المصائب والمحن، فلا يستجاب له، إنه مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى “يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً" وقال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يارب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له" (رواه مسلم). ولقد جاء التحذير من تعاطي الربا أو التعامل به، ولعن صاحبه وطرده من رحمة الله عز وجل وإبعاده عن مرضاته سبحانه وتعالى، ففي حديث بن مسعود رضي الله عنه قال: “لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء" (رواه مسلم) أي أنهم سواء في الإثم والمعصية، والجزاء والعقاب، قال صلى الله عليه وسلم: “اجتنبوا السبع الموبقات (أي المهلكات) قالوا يارسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" (رواه الشيخان). إن الربا وإن كثر فهو إلى قلّ وإن بركته ممحوقة يقول الله تعالى “يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم". وقال صلى الله عليه وسلم: “الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل" (رواه الحاكم وهو في صحيح الجامع). أيها المسلمون: لا بد لكل عاقل فطن، أن يعرف أن التعامل بالربا دسيسة ومكيدة من دسائس أعداء الله اليهود قاتلهم الله ومكيدة من مكائدهم العظيمة لا كثرهم الله ليبعدوا الناس عن دينهم، فقد باءوا بالغضب واللعن من الله تعالى لأكلهم الربا، واستحقوا الخزي والندامة، ومسخوا خنازير وقردة، يقول الله تعالى: “وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً" (النساء: 161). وإن مما تأسف له النفوس أن ثلة من الناس لا يهتم بأحكام الإسلام وإنما يهتم بما يدر عليه المال من أي طريق كان، وما ذاك إلاّ لضعف الإيمان وقلة الخوف من الله تعالى، وغلبة حب الدنيا على القلوب، نسأل الله السلامة. هذا هو الواقع المؤلم الذي آلت إليه مجتمعات الإسلام ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. فهذه الهزائم والخسائر، وهذه البراكين والزلازل، وهذا الهرج والمرج، وكثرة الحوادث والمرض، كل ذلك بما كسبت أيدي الناس من تعاطٍ للربا وغيره. قال عليه الصلاة والسلام: “إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" (رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد). وقال تعالى: “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي علموا لعلّهم يرجعون" وقال تعالى: “وما نرسل بالآيات إلا تخويفا". قال ابن القيم رحمه الله “إذا ظهر الزنا والربا في قرية أُذن بهلاكها" فبدأت المحن تتوالى والمصائب تتابع من جرّاء التعامل بالربا. أيها المرابي.. يا من تتعامل بالربا: اتق الله، واجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، واحذر من مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون، استعمل عقلك وحكم دينك وشرع نبيك، الذي قال: “إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما قالا لي، انطلق، وإني انطلقت معهما.. فانطلقنا فأتينا على نهر قال أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجرا فينطلق فيسبح، ثم يرجع إليه، كلمّا رجع إليه فغر له فاه، فألقمه حجراً، قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق، إلى أن قال: فإني رأيت الليلة عجباً؟ فما هذا الذي رأيت؟ قالا لي: أما إنا سنخبرك. أماّ الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر، ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا" (رواه البخاري). وهذا عذاب أهل الربا في القبور إلى يوم البعث والنشور وذلك تنكيلا لهم ومدا للعذاب، لاعتراضهم على الله في حكمه، فالله يقول: “وأحلّ الله البيع وحرّم الربا"، وهم يقولون: البيع مثل الربا، فاعترضوا على الله في حكمه ورفضوا شرعه، مع علمهم بتفريق الله بين البيع والربا، وهو سبحانه العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده وما يضرهم. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: “وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس". نسأل الله أن يوفق المسلمين لكسب الحلال الطيب، وأن يجنبهم الخبيث من المكاسب، والحمد لله رب العالمين. “من غشنا فليس منا" عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ على صُبْرَة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: “ما هذا يا صاحب الطعام؟"، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: “أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني" رواه مسلم. وفي رواية أخرى للحديث عند مسلم: “من غشنا فليس منا". معاني المفردات السماء: المطر الصُبْرة: الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن. تفاصيل الموقف الغشّ ظاهرة اجتماعية خطيرة، يقوم فيها الكذب مكان الصدق، والخيانة مكان الأمانة، والهوى مقام الرشد، نظرا لحرص صاحبها على إخفاء الحقيقة، وتزيين الباطل، ومثل هذا السلوك لا يصدر إلا من قلب غلب عليه الهوى، والانحراف عن المنهج الرباني. ومظاهر الغش والخداع كثيرة، جاء أحدها في موقفٍ سجله لنا التاريخ، وفيه أنه النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له زيارة إلى السوق ليشتري ما يحتاجه، فاستوقفه منظر كومة من طعام -جاء في المستدرك أنها من الحنطة- وقد عرضها صاحبها للبيع. ومن النظرة الأولى أُعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالطعام فهو يبدو فائق الجودة والنضارة، لكن الفحص الدقيق يظهر ما كان خافيا، فقد أدخل النبي عليه الصلاة والسلام يده الشريفة إلى تلك الكومة فإذا بها مبتلّةٌ على نحو يوحي بقرب فسادها. استدار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الرجل، وألقى إليه بنظرة لائم وأتبعها بسؤال المعاتب: “ما هذا يا صاحب الطعام؟"، فأطرق الرجل رأسه في خجل وقال: “أصابته السماء يا رسول الله"، وكأنه يريد أن يعتذر عن فعلته ولكن بما لا يُعتذر به، وأن يُبرّر موقفه ولو بأقبح التبريرات، كل ذلك محاولة منه في تخفيف غضب النبي عليه الصلاة والسلام وعتابه. لكنّه رسول الله، ومعلّم البشريّة، ومتمّم الأخلاق، ما كان له أن يتغاضى عن موقفٍ كهذا، وليس الموقف موقف مجاملات أو صفح عن خطأ فردي، ولكنه أوان ترسيخ مبدأ عظيم يحفظ حقوق الناس ويصونها من العبث والتدليس: “أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني". إضاءات على الموقف حقيقة الغش هو تقديم الباطل في ثوب الحق، الأمر الذي ينُافي الصدق المأمور به والنصح المندوب إليه، وقد صحّ الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه، ومن هذا المنطلق جاء تحريم الغشّ حتى يُعامل كل فردٍ من أفراد المجتمع غيره بما يُحبّ أن يُعاملوه به، فكما لا يرضى الخديعة والاحتيال على نفسه فكيف يرضاه على الآخرين؟ ومن العار على الشرفاء أن يرضوا على أنفسهم بمثل هذه الدناءة الخلقية، فعلاوة على كونها معصية صريحة لله ورسوله، وأكلا لأموال الناس بغير حق، فهي كذلك سبب في ضياع الذمم وانعدام الثقة وإشاعة البغضاء، وقد أوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: “بيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما" متفق عليه. وإذا جئنا إلى صور الغشّ في البيع فهي كثيرة جدا، ومن ذلك: التطفيف في المكيال وعدم إيفاء الوزن حقه بما يتنافى مع قوله تعالى: “وزنوا بالقسطاس المستقيم" (الإسراء: 35)، ومن ذلك بيع التصرية: وهو ترك حلب الناقة مدّة قبل بيعها لإيهام المشتري بكثرة لبنها، ومن صورها: إطعام النحل للسكّر حتى تُكثر نتاجها، وخلط الماء باللبن حتى يكثر، وبيع البضائع المقلّدة على أنها أصليّة، ومنع المشتري من فحص السلعة أو تجريبها قبل شرائها، وقريحة من لا خلاق لهم لا تنضب من ابتكار صور جديدة له في كلّ عصرٍ وبلد، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. على أن مفهوم الحديث أوسع من دلالته على تحريم الغش في مجال المعاملات المالية فحسب، فقد خرج مخرج القاعدة الشموليّة التي تخاطب جميع أنواع الحياة، فيكون الغشّ في الزواج بإخفاء عيوب الزوجة، أو منافاة الأمانة في عدم بيان حال من تقدّم للخطوبة وأخلاقه ودينه، ويكون الغشّ في النطاق الوظيفي في العمل بما يحقّق المصالح الشخصية ولو كان على حساب الآخرين، ويكون الغش مع العلماء في كتم النصيحة عنهم، فضلا عن أشهر أنواع الغش وأكثرها خطورة: غش الطلاب في الامتحانات. ولن يكون علاج مثل هذا الداء العضال إلا بإيقاظ الضمائر وإحياء جانب المراقبة عند الأفراد، فيعلم كل فرد أن الله مطّلع على أعماله وسوف يحاسبه، ويتزامن ذلك مع إيجاد عقوبات رادعة تُعاقب كل من سوّلت له نفسه خيانة الأمانة، وبذلك يتحقق الأمن وتنتشر الأمانة، ويسود الإخاء في أرجاء الأمّة.