عندما انتصرت جبهة الإنقاذ في أول محليات حرة عام 90، شكّل ذلك الإنتصار صدمة بالنسبة للكثير من المراقبين، واعتبر حينها أن فوز الإسلاميين الراديكاليين كان بمثابة العقاب الذي مارسه المجتمع ضد الأفلان باعتباره الحزب الحاكم سابقا، والمتسبب في ما آلت إليه الجزائر من انحطاط وانحدار، وكانت تشريعيات عام 91 تأكيدا على تمتع التيار الإسلامي الراديكالي بسؤدده وعنفوانه.. لكن إيقاف المسار الإنتخابي ودخول الجزائر دوامة من العنف، لم يحرم الإسلاميين الشرعويين من مثل حركة نحناح، والنهضة من قوتهم السياسية داخل المشهد السياسي، وهذا ما فتح الباب لأن يكونوا القوة التي يحسب لها ألف حساب، وحتى عندما تبوأ بوتفليقة الحكم كان الإخوان ضمن العناصر الأساسية إلى جانب الأفلان والأرندي المشكلة للحلف الرئاسي الذي خاض به بوتفليقة معركته نحو قصر المرادية عهدات ثلاث بكاملها.. لكن ما الذي بدأ يحدث للإسلاميين بعد هبوب رياح التغيير على المنطقة العربية والمفرزة للإسلاميين فيها كقوة سياسية دون منافس.. حدث ذلك في تونس ومصر، بل وحتى في ليبيا؟! هل الجزائر أصبحت تشكل فعلا الإستثناء فيما يتعلق بالمعطى الإسلاموي ضمن الخريطة السياسية العامة؟! فالإسلاميون سجلوا تراجعا كبيرا في التشريعيات أمام جبهة التحرير وغريمها الأرندي، وها هم الآن، في سباق المحليات يهوون بشكل متسارع وجارف نحو الأسفل؟! كيف يمكننا تفسير مثل هذا التراجع للإسلاميين؟! قد يحتج الإسلاميون الذين دخلوا سباق المحليات بالتزوير، وأنهم كانوا ضحية انتقام تاريخي من قبل السلطة، لكن ذلك لوحده لا يكفي، وقد يشير البعض أن الراديكاليين كانوا هم القوة الفعلية والممثلة للإسلام السياسي ويحظر حزبهم، وغلق الأبواب أمام نشطائهم لأكثر من عشرين سنة قد جعل تأثيرهم يضمحل.. لكن كيف نفسر صعود التيار السلفي داخل المجتمع؟! ثمة إجابة ممكنة، أن التيار السلفي غير الحركي أي غير السياسي قد وجد التشجيع ذاته من قبل السلطة، وهو يساهم في تنمية الشعور المحافظ الموالي بشكل غير مباشر لتوجهات السلطة الجديدة منذ مجيئ بوتفليقة إلى الحكم.. وهذا الإتجاه المحافظ يعمل بشكل أساسي ضمن خطة الحكم الحالي على إفراغ الحياة السياسية من كل مضمون حيوي وحقيقي يدعو إلى الترقية بالوعي السياسي الكامل القائم على الاختلاف وحرية النقد والإقتراح.. ومع ذلك يمكن رد هذا الإنهيار للعائلة الإسلاموية الشرعوية إلى نقاط، أهمها: إن الإسلاميين الشرعويين قد اختاروا الإقتراب على مراحل من الحكم، وقد شجعهم هذا الأخير على مثل تلك الإستراتيجية وذلك عبر جرهم إلى ملعبه، بحيث أغدق عليهم الكثير من الإمتيازات وأغرقهم في الريوع، وجعل منهم طرفا شريكا في الفساد، وبذلك خسر الإسلاميون روحهم، وفقدوا قيمهم ومبادئهم التي كانت تتركز على أخلقة الحياة السياسية والعامة. دخول الإسلاميين في السلطة، دفع بهم أن يستلذوا حلاوة السلطة، وهذا ما جعلهم يتسابقون فيما بينهم لنيل ثقة أصحاب القرار، وذلك ما جعلهم ينقسمون على أنفسهم، بحيث تحولت النهضة إلى نهضات، والإصلاح إلى إصلاحات وحمس إلى حمسات، انتهاء بحزب تاج، ولقد كان هذا الإنقسام بمثابة بداية النهاية للتيار الإسلامي الشرعوي.. إن الإسلاميين لم يستفيدوا من الوضع الجديد ضمن مرحلة ما بعد الإرهاب، من الماضي، ومن أفول التيار الراديكالي الذي تمت ملاحقته والتضييق عليه لأن يشكلوا خطابا سياسيا جديدا، والعمل على التجذر داخل المجتمع، مثلما كانت حركاتهم إبان السرية، فاعتقادهم بهيمنتهم على المجتمع ملأهم بالوهم وأكسبهم كسلا في التفكير وفي الأخذ بزمام المبادرة، خاصة وأن السلطة الحالية تمكنت في ظرف السنوات الأخيرة من الإستيلاء على خطابهم وسعت إلى ترجمته في الميدان، بحيث خرجوا مع الاحتكاك بها حفاة وعراة.. وقد يكون هذا الشعور الذي خرج به جاب الله من التشريعيات السابقة من الإكتواء، جعله هذه المرة يقاطع الإنتخاب حتى لا تكون نهايته قاسية ومفجعة...