عاد أفراد أسرة الأثر “الدكتور سعيد بوطاجين ومحمد بن زيان" وصديق الأثر الدكتور مخلوف عامر، هذا الأسبوع، من مدينة أدرار محمّلين إلينا بأجمل الهدايا، من الطبعة الثانية من ملتقى الكتابة السردية، الذي نُظم، مؤخرا، بدار الثقافة لهذه المدينة الصحراوية الرائعة.. فمن بين مفردات نصوصهم كانت تنسل إليّ حبات الرمل الذهبية الناعمة محمّلة برائحة الشاي الأخضر “المنعنع" لتسرد تفاصيل لقاءات دافئة تقتفي أثر الحرف الجزائري بمتعة ومحبة، يُذكر صدقها بنصوص ألبرتو مورافيا في كتاب “رسائل من الصحراء".. ملتقى السرد هذه السنة، جاء تحت شعار مهمّ، يتماشى ونسق الخمسينية التي نعيش على وقع احتفاليتها “50 سنة من السرد"، لكن ما الذي تلخصه هذه العبارة؟ من خلال الانطباعات التي عاد بها الأصدقاء، يبدو أن النقاشات كانت حامية حول “المنجز الروائي" في الجزائر خلال نصف القرن الأخير، ولا أعرف ما الذي توصلوا إليه تحديدا، لكن في رأسي تمر كليشيهات سردية مختلفة لكتابات الخمسين سنة الماضية التي تمكنت من الاطلاع عليها، يرافقها سؤال مهمّ، هل توثق هذه الكليشيهات أدبيا لتحولات المجتمع الجزائري - وأقصد هنا التفاصيل المرتبطة بحكايات حياة الناس، مشاعرهم، خيباتهم... - أم أن الكثير مما كتب كان عبارة عن محاولات للدفاع عن أيديولوجيات متناحرة في ظل غياب تاريخ موثق وفر بيئة جيدة لتسد هذه الأيديولوجيات مكان المؤرخ الغائب من قبل كتاب استفادوا من موروث شفهي معين؟ هذا السؤال لا يجيب عليه إلا مختص. لكن بطرحه عادت إلى رأسي رواية قرأتها مرات عدة “قلم نجار" للكاتب الغاليسي (غرب إسبانيا) مانويل ريفاس، التي يتناول فيها مأساة الحرب الأهلية التي عاشتها إسبانيا في النصف الأول من القرن الماضي. في كل مرة أفتح فيها هذا الكتاب أقول “اللعنة على السرد" وعلى ما يتركه فينا من مفعول مخدر، يذهلني هذا الكاتب الذي يقترب أسلوبه أحيانا حتى يلامس سحر مركيز، لكنه يختلف عنه.. ففي روايته التي تعتمد على معلومات وأسماء حقيقية من التاريخ الإسباني بعد انقلاب “الجنرال فرانكو" على الجبهة الشعبية، لا يقدم شخصياته لا على أنها ملائكة ولا على أنها شياطين، وإنما يقص عليك حكاية شعب انفصم في لحظة تاريخية فاصلة من تاريخ هذا المجتمع، فهو يروي لك المآسي التي عاشتها النخبة الجمهورية - الذين مات معظمهم في السجون - على لسان السجان “هيربال" (حار سجن عسكري) أي رجل من الطرف المعادي انتهى به المطاف نادلا في ملهى ليلي ولا يجد لمن يروي ما حدث بين فصائل الجيش والجمهوريين أيام الحرب الأهلية إلا ل “مومس" تقابله على إحدى طاولات الملهى في صباح ليلة قذرة وشاقة.. أما السحر الحقيقي لهذه الرواية، فيكمن في أن الذي يشترك مع هذا العسكري في سرد التفاصيل هو الدكتور “دا باركا"، الوجه الجمهوري اللامع والمثقف الفاعل في المجتمع الإسباني في ذلك الوقت، لذلك عند الانتهاء من رواية “قلم نجار" تكتشف أن طرفي النزاع يشتركان في عملية إعادة بناء أحداث الحرب الأهلية الإسبانية.. وهذا هو السرد الذي لا تجد أمام روعته إلا عبارة واحده لتقولها “اللعنة على السرد".