إلى الأستاذ عبد القادر مهداوي: هل يجب أن نبقى دائماً رهن التفسيرات الموروثة والمروج لها من قبل جهات، هي أبعد ما تكون عن البراءة؟ هذا السؤال هو الذي يراودني عندما أقرأ تاريخ الشعر الجاهلي، ولعل الدراسة الوحيدة التي خالفت النسق العام للتفسيرات الرسمية، هي دراسة طه حسين ولست هنا بصدد مناهضته، فأغلب الردود التي تلقاها كتابه في الشعر الجاهلي كانت ذات خلفيات عقائدية بالدرجة الأولى، ولا أريد كذلك موافقته لأنّ هدفي ليس التشكيك في وجود الشعر والشعراء أصلاً، بل لفت الأنظار إلى زاوية أخرى في الشعر الجاهلي لم يسلط عليها الضوء بالشكل الكافي، أو على الأقل قيل فيها ما تريد أن تسمعه جهات رسمية محددة أضفت طابع القداسة على النص الشعري القديم. هذه الزاوية هي زاوية النشأة والمفهوم والموقع. لقد صدر عن أحد النقاد العرب المحدثين مقولة نالت حظا لا بأس به من الاهتمام وهي أنّ البلاغة العربية نضجت حتى احترقت، لكن بحوث البلاغة المعاصرة أثبتت هشاشة هذا الحكم، كذلك الأمر ذاته، بالنسبة إلى نقد الشعر الجاهلي لا يمكن القول بأنه استنفد كل طاقاته، فمن يقلب النظر في الفلسفة المعاصرة والبحوث المتعلقة بإعادة قراءة التراث، وأقصد بذلك الحفريات التأويلية، بالإضافة إلى الدراسات التأثيلية للمصطلحات، يجد أن إعادة النظر في الشعر الجاهلي يملك شروط إمكانه. وإذا ما روعيت كل من الدراسة الحفرية التأويلية في قراءة تاريخ الشعر الجاهلي، والدراسة التأثيلية في دراسة مصطلحاته، فلا أستبعد قيام نظرية جديدة في نشأة الشعر العربي القديم ومفهومه. ولست هنا مدعياً فالدراسات الحفرية التأويلية تمكننا من النظر في بعض الزوايا المهمشة في الدراسات التقليدية للشعر، أو بالأحرى من يقف وراء تلك التأويلات الرسمية لنشأة مفهوم الشعر وموقعه في الثقافة العربية، فمثلاً قضية القداسة المضفاة على الشعر والشاعر في العصر الجاهلي، هل تعبر عن الموقع المرموق للشعر والشاعر في الثقافة العربية، وعن واقع الشعر حقاً أم أن هناك تعتيم حول الصورة من قبل جهات معينة؟ إنّ كل أمة من الأمم وكل مجتمع من المجتمعات يملك منظومة قيمية تتوافق مع طراز عيشه ونظامه الاجتماعي والاقتصادي والعقدي، ويسعى كل مجتمع إلى الذب عن حياض منظومته القيمية، وقد يمارس في دفاعه ذاك أنواعا من الممارسات الإقصائية التي تصل به حد التطرف أحياناً، هذا ما يجعل فرضية ارتباط نشأة الشعر الجاهلي بالمنظومة الاقتصادية والدينية لمركز الديانة الوثنية في الجزيرة العربية (عند قريش) أمرا وارداً، ذلك أن الشعر في هذه الحالة كان بمثابة وسيلة الإعلام ولا حاجة لنا لتوضيح علاقة وسائل الإعلام بالنظم السياسية والاقتصادية، فهذا بمثابة تأكيد ما ثبتت صحته أصلاً. كما أنّ ما يؤكد فرضية تقديس الشعر لأسباب اقتصادية ودينية، هو ربط مفهوم الشعر بالشعور، أي أنّ الشاعر يشعر ويحس بما بلا يحس به غيره من البشر، هل يمكننا أن نرضى بهذا الكلام ونقبله دونما نظر؟ هنا يتبدى الدور المهم الذي تلعبه الدراسة التأثيلية لمصطلح الشعر، فقد صبغ الشعر عمدا بصبغة الشعور الإنساني الذي ينال درجة معينة من القداسة لدى مختلف المجتمعات، بهدف رفع الشاعر وجعله فوق النقد، أو جعله إنسانا فوق العادة (super man)، والهدف من وراء ذلك ليس الشعر ولا الشاعر وإنما تلك المنظومة التي سبق وأن أشرنا إليها. الأستاذ أحمد العزري (جامعة تيزي وزو) الأستاذ المحترم، أحمد العزري، إن نشري لمقالي السابق، حول قضية نشأة الشعر الجاهليّ، وإني قد كنت أول الأمر، ضد فكرة نشره، لم يكن إلا لسببين اثنين، أما أولهما فكان أن يثير تحفيزا على النقاش، والثاني، أن يجعلنا نهتدي بطرحه، إلى عديد القضايا النقدية المُشمّعة، خاصة تلك المحنطة منها، وهي بعد على قيد الحياة، يسرني، تعقيبك هذا، الذي آثرت أن أقدمه للنشر، هنا، كما سرّتني الكثير من الردود، والتعقيبات، والمقالات التي تلقيتها. طبعا، سيكون لموضوع نشأة الشعر الجاهلي، بقية، كما ويسعدني استقبال مناقشات القراء الأفاضل، والتي سنناقشها، ربما على صفحات هذا الملحق الثقافي القيّم. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته *جامعة تيزي وزو