عند منتصف الطريق نحو “السعفة الذهبية"، بدأت تتضح معالم هذه الدورة من مهرجان “كان" وتيماتها المميزة. ولعل أبرز هذه التيمات موضوع المراهقة المعذبة، الذي شكل المحور الرئيسي لثلاثة من أبرز الأفلام التي عُرضت خلال الأسبوع الأول من المهرجان، وهي “الماضي" لأصغر فرهدي، و«صغيرة وجميلة" فرانسوا أوزون، و«الخاتم اللماع" لصوفيا كوبولا. صاحبة “ماري أنطوانيت" اقتبست موضوع فيلمها، الذي عرض في افتتاح “نظرة ما"، ثاني أهم تظاهرات المهرجان، من قصة واقعية لمجموعة من المراهقين في سان فرانسيسكو يقودهم ولعهم بمشاهير تلفزيون الواقع إلى تأسيس عصابة للسطو على بيوت نجومها المفضلين، وذلك عبر رصد أخبارهم وتتبع تنقلاتهم عن طريق الفيسبوك. انطلقت كوبولا من هذه الوقعة لتلقي بنظرة نقدية ساخرة على عالم المشاهير والنجوم في المجتمعات الاستهلاكية الغربية. وبالرغم من أن المقارنة قد تبدو نوعا من ردة الفعل النمطية، إلا أن النقاد قارنوا صوفيا كوبولا في فيلمها هذا - لأول مرة- بأفلام والدها المعلم الكبير فرانسيس فورد كوبولا، وبالأخص لجهة الأسلوب الذي صورت به مسقط رأسها سان فرانسيسكو، بحيث جعلت من المدينة واحدة من شخصيات الفيلم المحورية. فرانسوا أوزون، الذي ينافس على السعفة الذهبية، سلط كاميراه على موضوع جارح هو دعارة القصر، من خلال تتبع رحلة تمرد وتيه مراهقة تدعى “إيزابيل" (مارين فاكت) تقع في براثن عصابات الإتجار بالبشر. وفي هذا العمل، يعود أوزون على خطى بداياته، حيث شكلت المراهقة تيمته الأثيرة، منذ فيلم القصير الأول “أنظر إلى البحر" (1997)، وصولا إلى فيلميه الروائيين “قطرات ماء على أحجار ساخنة" (2000) و«المسبح" (2003). ورغم قساوة موضوعه إلا أن الفيلم لم يخل من الشاعرية، واحتلت أغاني فرانسواز هاردي مكانة مركزية في بنية الفيلم، حيث تدور أحداثه عبر أربعة فصول تتداخل فيها الأحداث والأزمنة، ويفتتح كل واحد منها بأغنية من أغانيها... المراهقة المعذبة كانت أيضا محور فيلم الإيراني أصغر فرهدي، الذي شكل الحدث الأبرز، بلا منازع، خلال الأسبوع الأول من المهرجان، بانتظار دخول “الأعيرة الثقيلة" في السباق على السعفة الذهبية، تباعا، من الأخوين كوين إلى ستفن سودربرغ وجيمس غراي. ونجح فرهدي في إشعال معركة التكهنات باكرا هذه السنة، حيث شكل فيلمه مفاجأة مبهرة للنقاد ولرواد الكروازيت. وكان مشروع الفيلم قد استقطب الاهتمام منذ البداية، كونه أول عمل يصوره صاحب “انفصال" خارج بلاده. وزاد من الفضول كونه اختار تصوير فيلمه في فرنسا وبلغة موليير. مما دفع النقاد والمهتمين للتساؤل إلى أي مدى سينجح في اجتياز تجربة الاغتراب هذه من دون أن يخسر روحه؟ قصة الفيلم تروي رحلة تيه طويلة (جسدية ونفسية) تقود “أحمد" للسفر من طهران الى باريس لاستكمال إجراءات طلاقه من زوجته الفرنسية السابقة “ماري"، وإذا به يكتشف ان ابنتها من زواج سابق تعاني مشكلة نفسية محيرة، حيث تعارض بشدة ارتباط والدها بخليلها الجديد، وتسعى لابتكار الحيلة تلك الأخرى لفصلها عن بعض، في حين كانت علاقاته جيدة وابوية مع احمد أيام ارتباطه هو الآخر بوالدتها. يحدس احمد ان في الأمر “سرا كبيرا" يفسر سلوك ربيبته المراهق، ويقرر إلا يغادر باريس قبل ان يكتشفه. وعلى غرار فيلمه السابقين “انفصال" (أوسكار افضل فيلم أجنبي - 2012) و«بخصوص إيلي" (الدب الفضي في مهرجان برلين - 2009)، ينطلق فرهدي من هذه الصلات العائلية الاشكالية ليغوص عميقا في الأغوار النفسية المعذبة لشخصيات فيلمه. ومن خلال لعبة مرايا محكمة، يراوغ جمهوره باستمرار، ليجره من دون ان يدري الى تمرين ذهني تلتبس فيه قيم الخير والشر، لتسقط تدريجيا الانطباعات الأولية التي يكونها المشاهد عن شخوص الفيلم، بحكم انقلاب جدلية الضحية والجلاد كلما غيّر المخرج زاوية الرؤية، ليعيد طرح المشهد أو الحدث ذاته من وجهة نظر الآخر... الحماس النقدي الذي رافق العرض الأول للفيلم، دفع بعض الصحف الفرنسية الى إشعال معركة التكهنات باكرا، مراهنة بأن “أيا من أعضاء لجنة التحكيم لن يكون بمقدوره ألا يفكر في رائعة فردهدي هذه، لحظة إسداء السعفة الذهبية". ولا شك ان هذا الحماس أسهمت فيه الى حد ما “الشوفينية الفنية" الفرنسية المعتادة، كونه صُوّر في لغة موليير، ويؤدي بطولته اثنان من أبرز رموز السينما الفرنسية الجديدة، وهما طاهر رحيم وبيرينس بيجو. لكن العامل الأهم يبقى بالتأكيد كون فرهدي احتجاز، بإجماع النقاد، الامتحان ذاته الذي سبق أن تصدى له مواطنه المعلم الكبير عباس كياروستامي، عام 0102، من خلال فيلم “صورة طبق الأصل"، الذي صوّره في إيطاليا (بطولة جوليتي بينوش). فمن خلال عمليهما الساحرين، أثبت هذان المخرجان الإيرانيان أن النَفَس الانساني هو المسلك الأمثل نحو العالمية.