هي فعلا منارات مضيئة في درب الظلام المطبق من كل الجهات، هم أولئك الذين تمردوا على ما فرض عليهم من عتم دامس يعيشون فيه طوال أيام الحياة، لينيروا الطريق لسواهم من بني البشر، وليقدموا إليهم، من هناك، من منطقتهم المعتمة ضيقة المساحة واسعة الامتداد، ما جادت بهم محاولات بذلوها للنظر من زاويتهم غير المألوفة لسواهم من أبناء جلدتهم وإخوانهم. يمكن اعتبار الشاعر بشار بن برد.. أول شاعر حداثي في تاريخ الشعر العربي، فبفضله فُتحت أمام الشعر ميادين جديدة، لم تكن مألوفة في العصرين الجاهلي والأموي، واستطاع أن يعبر بشعره عن انتقال المجتمع العربي الإسلامي من الحياة البدوية البسيطة إلى الحياة المدنية، بكامل تعقيداتها ومفرداتها الجديدة، محافظا في الوقت نفسه على بذالة وفخامة الشعر العربي في العصور السابقة. يقول الكاتب محمود سامي الكيال: "كان بشار شاعرا مثقفا، مستوعبا لعلوم عصره، ومطلعا على جميع التيارات الفكرية والسياسة المتصارعة في أيامه، وقد حمل - كمعظم مثقفي ذلك العصر - مزاجا معارضا للسلطة الحاكمة، إلا أنه لم يتورط بالانتساب إلى أي من الفرق السياسية الأيديولوجية، التي كانت تحمل لواء المعارضة في ذلك الزمن". وعلى الرغم من أنه عمل على التكسب من شعره من خلال مديح أرباب السلطة والنفوذ، على عادة شعراء تلك الأيام، فإن ذلك كان يشعره بتأنيب في الضمير كثيرا ما كان يعبر عنه في أشعاره. ولد بشار بن برد في البصرة في العام 714م، وكانت البصرة - يومئذ - معقل العلماء والفقهاء وأهل الاجتهاد وأصحاب الكلام، ولكنه من أصل فارسي، عاش بين العصرين الأموي والعباسي، ويعد من أشهر هذين العصرين وأجذلهم شعرا - بإجماع الرواة - إلا أن بعض شعره غلب عليه المجون الفاضح والكلمات المبتذلة، ما جعل له أعداء كثيرين، كما أنه اتهم بالزندقة قبل مقتله. بشار ولد أكمه فلم ير الدنيا قط، على أنه كان يشبه الأشياء ببعضها في أشعاره، فشب فصيح اللسان، صحيح البيان، وهو آخر من يقبح بشعره النحاة، عاش متابعا كتب الأدب والتاريخ القديمة حتى اشتهر بشعره، وكان أحد البلغاء المكفوفين، وإمام الشعراء المولدين، وكان مرهوب الجانب، مخشي اللسان، وكثيرا ما لاقى الأذى والاضطهاد، بسبب تعرضه لأعراض الناس، وعدم تعففه عن مهاجمتهم. تنقل بشار بين المدن العراقية يبحث عن العلم، ثم عاد إلى البصرة، وراح يتردد على مجالس المتكلمين، وكان يمدح ولاة العراق، ومنهم: عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، حيث كان يجلس ويحضر مجالسه ويستمع إلى محاوراته مع من كانوا يعتنقون ديانات ومذاهب منحرفة مثل: المتنوية المجوسية والدهرية الهندية. كان بشار ضخما عظيم الخلق، جاحظ المقلتين، فكان أقبح الناس عمى، وأفظعهم منظرا، حتى أنه وصف نفسه قائلا: "والله... إني لطويل القامة، عظيم الهامة، تام الألواح، أسجع الخدين". عرف بشار الشعر وهو في العاشرة من عمره، وكان يهجو الناس، وكان يخشى من سلاطة لسانه... وعندما قيل له: إنك لكثير الهجاء؟! قال: "إني وجدت الهجاء المؤلم أقوى للشاعر من المديح الرائع، ومن أراد من الشعراء أن يكرم في دهر اللئام على المديح... فليستعد للفقر... وإلا فليبالغ في الهجاء... ليخاف فيعطى". كما عُرف عنه الغزل والتشبب بالنساء والمجون وسئل مرة عن نهجه في الحياة فقيل له: أي متاع الدنيا آثر إليك؟ فقال: طعام مز وشراب مر، وبنت عشرين بكر. وكان بشار كثير الجرأة في غزل النساء حتى وصلت شكوى أهالي البصرة إلى الخليفة العباسي المهدي، فاضطر إلى حبسه مدة قصيرة تأديبا له. وكان بشار قد ولد أعمى، وإن كان قد رضي عن هذه العاهة، فبعد أن خبر الدنيا، وقال: إنها تحجب عني رؤية ما أكره، ما يدل على أن من كان يكرههم يفوقونه بكثير من أهل عصره. ثم إن بشار كان دميم الخلقة، ضخم الجثة، جريئا في الاستخفاف بكثير من الأعراف والتقاليد، نهما مقبلا على المتعة بصورها المتعددة، عاش ما يقرب من 70 عاما، قبل أن يقتله الخليفة العباسي، متهما إياه بالزندقة. كان بشار يسخر من عصره انتقاما لاحتقار بني جنسه من الأعاجم أيام بني أمية، فلما جاءت الدولة العباسية قرّب الفرس، اعترافا بدورهم في القضاء على الدولة الأموية. أساء بشار فهم الحرية والعصر الجديد، ويبدو أن عاهته وقبحه كانت كلها وراء هذه الجرأة في التهام الحياة، والإقبال عليها، والتنعم بها، غير مبال بشيء وكأن حياته كلها ليست إلا ردا متماديا في القسوة على الرزايا، التي وجد نفسه مقيدا بنارها. كان بشار زنديقا متشبعا بالتعاليم المانوية، وكان يميل إلى التفكير الحر، ويأخذ بالشك والجبر، يقال كان جريئا على التقاليد العربية، وكان يجد في هذه الجرأة متنفسا للتعبير عن حقده على العرب والتشنيع بهم وبعاداتهم والسخرية من أفعالهم، لكونهم جاءوا بالدين الإسلامي، وقضوا على حضارة آبائه وأجداده الفرس من جهة وللتعبير من جهة أخرى عن نقمته على الأقدار، التي ابتلته بعاهة العمى منذ ولادته. ولكن كثيرين نفوا عن بشار تهمة الزندقة، غير أنه كان - في أحسن أحواله - شيعيا يجاري الرافضة في العديد من الأفعال منها قوله بكفر الصحابة الكرام بعد وفاة الرسول "صلى الله عليه وسلم"، ورجعة الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة. أسدل الستار على حياة بشار بن برد في 176 ه - 783 م، على خلفية اتهامه بالزندقة من قبل الخليفة العباسي المهدي، الذي أمر بقتله، فقيل: إنه مات ضربا بالسياط. وقيل عن هذه الواقعة: إن بشار مدح الخليفة، ولما لم يمنحه العطايا انقلب عليه وهجاه هو ووزيره يعقوب بن داود، فأمر الخليفة بقتله.