تتربع خليدة تومي منذ 2002 على كرسي وزارة الثقافة، وقطعت منذ ذلك الوقت شوطا طويلا في تعاطي الشأن الثقافي الجزائري بكل نواقصه وإمكاناته المدفونة في تربة الإهمال واللامبالاة والتهميش أيضا. وقد تحولت تومي طيلة الأعوام السالفة، إلى شخصية ملفتة للانتباه، بصراحتها تارة، ومواقفها غير المتوقعة تارة أخرى، وباجتهادها في تطبيق برنامج رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، الذي صادف احتضان الجزائر لعدد من المناسبات الدولية، على غرار الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007، وتلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011، وقبلها المهرجان الثقافي الافريقي 2009، تظاهرات خصصت لها ميزانيات معتبرة، ودفعت بعديد المؤسسات للعمل، في حقل الكتاب والسينما والمسرح والغناء... كما يحسب للوزيرة نجاحها في إقناع الحكومة بمضاعفة ميزانية أفقر قطاع في البلاد، وإدراجها جملة من القوانين كانت في أدراج الحكومة، وفعّلت الكثير من الزوايا التي أصابها الخمول وطالتها رطوبة الأيام المتتالية. المتحدثون ل "الجزائر نيوز"، باختلاف مشاربهم وطموحاتهم، يعترفون لخليدة تومي جرأتها في طرح قضايا قطاعها والحرص على تحقيق بعض المكاسب، ويشيدون بالأموال المخصصة للابداع بمختلف اشكاله، ويقرون ايضا أنها الوزيرة التي شعروا بأنها الأقرب إليهم من سابقيها. إلا أن الوجه الآخر من العملة، يرسم ملامح وزيرة تركت نفسها محاطة بما أسماه البعض ب "الانتهازيين"، و "الوسطاء" الذين أبطئوا ريتم تومي الى سرعات أدنى، ما يتنافى وحماسها في اطلاق العنان لقطاع ما يزال يعتبر رفاه. كما اجمع المتحدثون على غياب استراتيجية العمل، ضبابية الهدف، الاعتماد على مؤسسات تكرس الثقافة الرسمية "فلكلوريا" وتزيح من طريقها الاصوات الاخرى في المجتمع الجزائري الواحد. يبدو لي أن الوزيرة الحالية، مقارنة بوزراء الثقافة الذين تعاقبوا على هذه الهيئة، قدمت كثيرا للثقافة العربية. فيما يتعلق بتركيزها على طبع الكتاب والظاهر أن ما طبع في عهدها لم يحصل في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال. وهذه ميزة أساسية يجب التأكيد عليها، بصرف النظر عن العناوين التي تم تسويقها، من حيث أن الوزيرة لا تتحمل مسؤولية مستوى الكتب المطبوعة. على اعتبار أن هناك محيطا ولجانا للقراءة، كان عليها أن تتحمل مسؤوليتها لترقية المستوى. من ناحية أخرى، فقد عملت الوزيرة على تشجيع نشاطات أخرى، كالمسرح والسينما والقراءة عامة. مع ذلك يمكن الإشارة إلى بعض السلبيات، التي تتمثل في منظوري، في تغليب بعض المهرجانات الضعيفة على حساب العقل والثقافة بمفهومها الواسع. بيد أن ذلك لا يقلل أبدا من جهدها سواء اتفقنا أم لم نتفق معها، كما يجب الإشارة الى أنها من الوزراء القلائل الذين خصصوا ميزانية للترجمة بالتنسيق مع بعض الهيئات والمعهد العالي العربي للترجمة. إذن، السلبيات قائمة ولا يمكن نكرانها، كما ان الايجابيات كثيرة ونزعم أنها غطت على بعض الفجوات. عهدة خليدة تومي على رأس قطاع الثقافة، يمكن توصيفها بفترة تراوحت بين الانتصارات والانكسارات، فعلى مستوى الانتصارات والاستحقاقات، يمكن تسجيل النهوض بميزانية القطاع بشكل لافت، وكذا عملية الطبع الغفيرة للكتب خلال السنوات الأخيرة، وكذا عنايتها بالتراث اللامادي الشفوي الوطني، وكذا تأسيسها للمكتبات العمومية على مستوى الولايات، سياحة الثقافات المحلية عبر الوطن بواسطة المهرجانات. أما بالنسبة للانكسارات التي عرفتها فترة تومي، فتتمثل في عدم قدرتها على تفعيل المركز الوطني للمخطوطات بأدرار، وكذا تأسيس قانونه الهيكلي على الجانب الإداري دون العلمي، مما جعله لأكثر من عشر سنوات من فتحه هيكلا بلا روح، نظرا لسياسة المحاباة في تعيين المدراء غير الأكفاء على رأسه، مما جعل المركز لا يقوم بدوره الريادي في العناية بالمخطوط، وكذا اعتمادها في تعيين مدراء الثقافة على رأس الولايات على الجانب الإداري دون مراعاة الحس الثقافي والفني، مما أثّر سلبا على ديناميكية القطاع. من الإجحاف إنكار الجهد الذي تبذله خليدة تومي في قطاع هي على رأسه منذ سنوات طويلة، وقد نجحت في التعرف على كل حيثيات قطاعها، وأصبحت مختصة فيه إن امكن القول. بصفتي فنانة في مجال الغناء، أسجل تقدما ملحوظا في هذا المجال، وفي مجالات اخرى مثل المسرح والسينما والكتاب، فهي تتحرك في الساحة على اكثر من صعيد، وصدى عملها يصلنا عن طريق الاعلام والمعنيين بالأمر مباشرة. اشعر أن خليدة تومي، مثال جيد للمرأة الجزائرية الفاعلة، فهي بمائة رجل، واستطاعت ان تنجز ما لم يقدر عليه غيرها. واتمنى أن تواصل جهدها في منح الفنان الجزائري قانونه الأساسي، وأن تخرجنا أخيرا من نفق مظلم طويل. صحيح انها في الفترة الأخيرة أعلنت عن مرسوم تنفيذي يقضي بترتيبات تتعلق بالضمان الاجتماعي للعاملين في حقل الثقافة والفن، وقبلها انشأت المجلس الوطني للفنون والآداب، إلا أنها خطوات تبقى بحاجة الى تكريس واقعي، وأن نشعر نحن الفاعلون في الميدان بوجود هذه المؤسسات لصالحنا، فأنا اطلب من الوزيرة أن يكون المجلس مثلا عادلا ومنصفا مع المبدعين الذين لا دخل لهم سوى نشاطهم الفني، وأن تمنح الحقوق بالعدل دون إقصاء هذا على حساب من يتمتعون بحالة ميسورة أو حماية اجتماعية وغيرها. شخصيا علاقتي بمؤسسات وزارة الثقافة جيدة، سواء الديوان الوطني للثقافة والاعلام أو ديوان حقوق المؤلف، رغم أني انشط في الوسط مستقلة، وأعتمد على علاقاتي وسمعتي الطيبة مع الناس والجمهور، إلا أن المجال الفني بحاجة الى تنظيم كبير ليحمي من لا حول ولا قوة لهم. إن المتتبع لشأن ومنجزات الفعل الثقافي في مشاهده المختلفة المتنوعة لا يمكنه إلا أن يقر بأهميتها وثرائها وكثرتها ولا يخفى إلا على ناكر أو جاحد للمجهودات والمبادرات والتسهيلات التي قامت بها وقدمتها معالي الوزيرة "السيدة خليدة تومي" على رأس وزارة الثقافة. وواضح وجلي أن وزارة الثقافة حاولت دوما إشراك الأطياف والتوجهات الثقافية على اختلافها في تأثيث المشهد الثقافي الوطني ولم أشعر أبدا أن الوزارة وقفت حائلا بين المبدعين وبين التواجد ضمن هذا المشهد ومع ذلك فإن الوسطاء والأوصياء الأدعياء هم من حوّلوا في بعض الاحيان الفعل الثقافي إلى تجارة افرزت حركة خاوية لا تمثل إلا السطحية والتفاهة والفراغ. يبدو أن أوان تقييم العُهد بدأ عبر المنابر الإعلامية قبل المنابر التمثيلية كالبرلمان، وهي مفارقة في هذا البلد فعلا.. وأما أداء القطاع الثقافي في ظل استوزار خليدة تومي، فمن المهم الانتباه إلى أنها، فيما أعلم، أكثر الوزراء إقامة بقصر العناصر، وهو ما يتيح لها يقينا الإلمام بالملفات والمشكلات الراهنة ورهانات تطويراستراتيجية ثقافية في الجزائر، أو هكذا يجب أن يكون.. أنا أكره أن نبخس الناس أشياءهم، فقد أهلك ذلك الأمل في النفوس وأعدم أية وسيلة لإشاعة ثقافة الجميل والعرفان، وهنا نسجّل لتومي موقفها "النضالي" داخل مجلس الوزراء من أجل رفع ميزانية القطاع رغم رفض وزير المالية بن أشنهو آنذاك. هذه الميزانية الكبيرة ظهرت في ترسيم مهرجانات دولية كثيرة عبر مدائن الجزائر، وفي إقامة تظاهرات ضخمة على غرار سنة الجزائر بفرنسا والجزائر عاصمة الثقافة العربية وتلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية وقسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015، ناهيك عن مشاريع المسارح الجهوية وألف كتاب وكتاب وبناء هياكل للنشاطات المختلفة وغيرها مما لا يتسع المقام لذكره.لكن، ومن منطلق الوظيفة النقدية التي لا يجب أن نتخلى عنها، أقول بملء الفم، إن أكبر فشل لتومي كان في مجال السينما، فلا مؤسسة الإنتاج والتوزيع ظهرت، ولا القاعات هيئت واسترجعت نشاطها المعتاد ولا حديث عن مدينة للإنتاج الإعلامي والدرامي والتي كثر اللغط حولها في بسكرة. هناك خلل ما في أداء القطاع رغم الأموال والنشاط، إذ لا تشعر بتصور واضح لسياسة ثقافية تحقق الأثر المطلوب وفق أهداف محددة في المجتمع واتجاهات الذوق والقراءة والجمال. أليس غريبا أن مركز وطني للكتاب لم يظهر له أي أثر بعد 4 سنوات من إنشائه؟ ليس غريبا أن ترصد أموال على أفلام ثورية كتبت بطريقة "مدرسية" لتقديس أبطال الثورة ولا تحوز أية جائزة في أي مهرجان دولي للفن السابع؟ ألم يكن الأولى إنتاج أفلام عن قضايا الثورة بدل الأشخاص وسيرهم؟ ليس غريبا صدور آلاف العناوين وازدهار النشر دون فاعلية في توزيع الكتاب داخليا وخارجيا ومشاركة قوية في المعارض الدولية؟ ماذا فقد المسرح الجزائري قوته الفنية والاستعراضية والنقدية رغم الأموال والهياكل؟ كان الكاتب العالمي "غوزي ساراماغو" يقول: فيما يشبه الاعتراف المرّ: "ما أصعب أن تكون مبصرا في وسط أعمى"، هو يعني البصيرة، والبصيرة هنا ليست سوى أن نحرص على حسّنا النقدي في التقييم من أجل ثقافة تصير أداة لتعلم الحضارة تشيع بين الناس قيم الجمال والحق في المواطنة، لأن الدولة خالدة والأفراد زائلون بتعبير هيجل. ابني رأيي على أساس أني ممثل وحكواتي مستقل عن أي مؤسسة عمومية. حتى لا نكون مجحفين في حق 10 سنوات من استوزار خليدة تومي لقطاع الثقافة، يجب أن نذكر التطورات الحاصلة في المسرح والسينما والمكتبات العمومية. فهي مهمة للجزائر، وأصبحنا لدينا هياكل تضمن مستقبل البلد. لكن حالنا كفنانين مستقلين تراجع، لأن هذه المؤسسات التابعة للوصاية، لا تساهم في ترقية الفن والثقافة، وتكتفي بالنشاط الفلكلوري. ملايير الأموال صرفت على القطاع، لكنها لم تسخر للثقافة الحقيقية بل على أنشطة احتفالية لاغير. الوزيرة اطلقت ملف هام، يخص الحقوق الاجتماعية للفنان، وقد انتظرنا طويلا لنشعر أن السلطات العمومية تعترف بوجودنا، ويعود الفضل لتومي، التي انشأت مجلسا للاداب والفنون وفعلت المرسوم التنفيذي، فيما ترفض الدولة اطلاق سراح القانون الأساسي للفنان كغيرنا من فناني العالم. من ناحية التمويل والانتاج كان هناك قفزة نوعية منسجمة مع الاريحية المالية للبلاد. الا أنه دعما كان ينقصه التسيير، وهي النقطة التي علينا ان ننظر من خلالها الى حال القطاع بأكلمه. ميزانية الثقافة ارتفعت، وانعكست على ريتم انتاج الكتب والافلام والمسرحيات... إلا اننا لم نشتغل على النوعية، وانصب اهتمامنا على الكم فقط. اظن ان المسؤولية لا تلقى كاملة على عاتق خليدة تومي وحدها، بل يتقاسمها محيطها والفنانين كذلك الذين لم يكونوا في مستوى التطلعات والتحديات. واكرر قولي بأن البحبوحة المالية لقطاع الثقافة، افرز طبقة من المسترزقين الجدد الذين استغلوا الوفرة للربح السريع على حساب الحس الابداعي الراقي. إنجازات كثيرة تسجل للقطاع، بالنظر الى الاموال المرصودة له، وهو واقع لا يمكننا انكاره. كما لا ننكر على خليدة تومي اجتهادها وعملها الكثيف في قطاع احتفظت به لسنوات. فهي وراء اطلاع سلسلة من المشاريع الثقافية والفنية، لكن العمل الأساسي الذي لم ينجز رغم كل الإمكانات المتوفرة، هو غياب هدف من وراء كل تلك النشاطات والمساعي، وكانها تعمل بلا استراتيجية، والاعتماد على المال وحده لتسيير قطاع لا يجوز، بقدر ما نحن بحاجة أن نرافق المنجز بلواحق ضرورية، كأن نسأل أنفسنا لماذا ننتج افلام في غياب قاعات عرض في كل مكان، لمن ننتج تلك الافلام والمسرحيات...؟ ما فائدة تظاهرات ضخمة (2007-2009-2011...) إذا بقيت ثقافتنا مغيبة داخليا وخارجيا، وإذا لم تنعكس تلك البرامج على واقعنا الثقافي اليومي. في البلدان التي تحترم مواطنيها، يفتح المجال للجميع، سواء الموالين للثقافة الرسمية، او المعارضين لها، بينما في الجزائر نحن بحاجة الى التعبير عن كل ثقافتنا في كل ابعادها دون تمييز.. هذا الحال ولد حالة تعفن في القطاع وسمح بتجاوزات على تومي أن تراجعها وتشتغل في العمق. لا يمكن أن نشكك في حسن نية تومي لتطبيق مخطط يخدم قطاعها، إلا أن الوزيرة سقطت " في نظري" في ثقافة الأرقام، و الأموال التي جلبتها استقطبت انتهازيين لاعلاقة لهم بالمجال، كما أحمل الفنان مسؤولية ما يجري. كما يستحيل أن نطالب قطاع الثقافة وحده بتكوين مجتمع متفتح، في غياب تعاون بين مختلف القطاعات.