لا يزال الحديث عن قطاع الثقافة في الوطن العربي ذا شجون، حيث يتم التعاطي معه دوما في إطار "القطاع العام" بل تجاوز الأمر إلى حد أن الكثير من الصور النمطية أضحت مرتبطة بأي نشاط ثقافي باعتباره "نشاط غير نفعي" وبالتالي ينتج عن ذلك استنتاجان، أولهما ضرورة "إسناد الثقافة كجزء من مهام الدولة" وليس غيرها من القطاعات، كمطلق ثابت!. وثانيهما: أنه نشاط غير نفعي وغير ذي عائد مادي -حسب بعض التصورات- وبالتالي غالبا ما يدرج ضمن القضايا الثانوية أو "الترفيهية" التي لا ترتبط بأساسيات مطالب المواطن العادي! والواقع أن الاستنتاجيين لا يقدمان الصورة الحقيقية "للثقافة" كنشاط وسلوك وكضرورة حياتية لأي مجتمع! وإذا ما ألقينا نظرة سريعة لنماذج بعض الدول المتقدمة تكنولوجيا ومعرفيا واقتصاديا كاليابان فإن "وزارة الثقافة" تعد من الوزارات السيادية مثلها مثل وزارتي الدفاع والخارجية، بينما تحتل "الداخلية" موقع الثقافة في كل الدول العربية مع تفاوت الاهتمام بالثقافة فيها لأسباب وظروف مختلفة. وبعيداً عن التصنيفات العرضية لماهية الثقافة، دورها وأهميتها وضروراتها في أي مجتمع، فإن ما ينبغي الاهتمام به هو محاولة فك الارتباط الاعتباطي القائم بين الثقافة والعوائد المادية، (علما أنها تدر أموالا طائلة لدول بعينها) وكذلك فك الارتباط القائم بين القطاع العام والثقافة، فقد يحررها ذلك من تلك القيود البيروقراطية التي تعطل أكثر مما تساهم في الفعل الثقافي، رغم الميزانيات الطائلة التي ترصد لتلك الوزارات الوصية، والتي أضحت تتحول بفعل الأنظمة البيروقراطية وذهنية "المحسوبيات" إلى ريوع في خدمة "الشلل" عوض أن تساهم في ترسيخ الفعل الثقافي الواعي وذي الفائدة. إلا أن هذا التصور غالبا ما يصطدم بالكثير من الهواجس والمخاوف التي يطرحها بعض "المثقفيين" قبل غيرهم، والتي تنطلق من فرضية أن رفع "الدولة" يدها عن هذا القطاع قد يؤدي إلى اضمحلاله أو تراجع دوره، خاصة وأن مؤسسات الدولة (الأنظمة) لا تزال تمثل "الدينمو" المحرك لأي نشاط في المجتمع، كما ارتبطت فكرة "الخوصصة" وتطبيقاتها في العالم العربي بنماذج لا تساهم إلا في إضفاء مزيد من الهواجس حول كل ما يتعلق بفكرة "تحويل" القطاع العام للخواص (لأن ما حدث بالفعل ليس خوصصة حقيقية بقدر ما هو تحويل ملكية الدولة إلى ملكية رجال الدولة / النظام)! ورغم وجاهة هذه المخاوف فإن الأمر يمكن معالجته في إطار بقاء أنشطة القطاع العام بجانب قطاعات خاصة فاعلة ومنتجة في مجال الثقافة، وهناك أكثر من نموذج يمكن الإشارة إليه في العالم حول نجاح تجارب بعينها في إعادة مركزية الثقافة في المجتمع، وفي تعزيز حضور الأنشطة الثقافية بعيدا عن ذهنية المهرجانات الكبرى التي تخصص لها أغلفة مالية طائلة يعود جلها لجيوب "القائمين على الأمر" دون حسبة موضوعية لنوعية الفعل وجودته.. ذهنية قائمة على إقامة فعاليات مختلفة بأسماء مكررة بشكل ممل وتجارب أقل ما يقال عنها إنها دون المستوى! ولأن المشهد ليس قاتماً بشكل كلي، لا مناص من الإشارة إلى جملة من التجارب المشرقة التي ساهمت في صناعة الفعل الثقافي، معتمدة على إمكانات شحيحة، قبل أن تبدد كل الهواجس المتعلقة بفرضية "تراجع الدور الثقافي واندثاره" في حال اضطلاع القطاع الخاص بالشأن الثقافي! بل إن بعض هذه التجارب كشفت إمكانية تحويل القطاع الثقافي إلى "مورد مادي" حقيقي بجانب كونه مورداً معرفيا ومعنوياً. ولعل أبرز الأمثلة في ذلك "ساقية عبد المنعم الصاوي" بالعاصمة المصرية القاهرة التى تحولت إلى محج ثقافي وفني يتجاوز دور وزارة الثقافة، ويدر على أصحابه أموالا طائلة، ويوفر المئات من فرص العمل للشباب العاطل! فضلا عن قدرته على اختزال المسافة التي ظلت قائمة بين النشاط الثقافي وفئات وشرائح محددة في المجتمع. فضلا عن تجارب أخرى ك«المورد الثقافي" و مؤسسة "رصيف الشارع" و«مكاني" وغيرها من المؤسسات الخاصة التي أضحت تقيم أنشطة ثقافية يؤمها العامة من الناس ويسددون ثمن تذاكر حضورهم للنشاط سواء كانت أمسيات فنية أو حتى قراءات شعرية! بل أضحى من الاعتيادي معرفة أن "الأمسيات الشعرية" تباع لقنوات فضائية بمقابل مادي مجز! والأمر هنا لا يتعلق بزيادة أعباء المواطن بتكاليف إضافية حتى في "الحق الثقافي" بقدر ما يتعلق بإعادة صياغة التصور القائم، لصالح ترسيخ أهمية ومركزية الثقافة كضرورة من الضرورات التي يحتاجها المجتمع. وباعتبار الثقافة قطاعا منتجا على كافة المستويات.. وهو ما يفضح أسباب ضعف الإقبال القائم على فعاليات وأنشطة مجانية تقام برعاية ودعم "الدولة "!. حيث لا يمكن فهم ذلك بعيدا عن "نوعية المُنتج" (بضم الميم) وكذلك نوعية القائمين عليه، والميزانيات المرصودة له.