الشوارع خاوية على عروشها في مدينة لا تعرف النوم قط.. وسكانها المدمنين على السهر، وتحويل الليل إلى فعل متصل بالنشاط والحيوية يتحلقون في هذه اللحظة أمام التلفاز.. في البيوت والمقاهي . هذه الأخيرة التي تستعد لهذه اللحظة بما يليق بها من اهتمام.. شاشات عملاقة تنتصب في كل زاوية من زوايا الأمكنة في انتظار العاشرة مساء من ليل القاهرة، الأمر لا يتعلق بإذاعة بيان ثوري، أو حتى ماتش كرة قدم للمنتخب المصري، أو حتى لأحد النوادي العالمية العملاقة كبرشلونة أو ريال مدريد.. إنها لحظة مختلفة تماماً تتجاوز الأمور المعهودة، فهناك ما يجمع المصريين أبعد من ماتش كرة، رغم الحب الذي تحظى به الساحرة المستديرة. إنها لعبة أخرى، تمزج بين الهزل والجد.. بين السخرية والنقد الجاد والصدام، إنها لحظة هاربة من الروتين اليومي الممل في بلاد تعيش منذ ثلاث سنوات على وقع التحولات الكبرى التي قلبت قائمة الأولويات، وجعلت المجتمع يعيش على إيقاعات صاخبة وضاجة بالإختلافات العميقة، التي كادت أن تعبث بالكثير مما بدا أنه يوحد المصريين لفترات طويلة.. وسواء اتفقت مع مسار الثورة الذي تعرض لأمواج متقلبة من الأحداث والتطورات، أو اختلفت، فإن من الأمور القليلة التي لا تزال تجمع المصريين بكل اختلافاتهم وخلفياتهم السياسية والعقيدية هو هذه اللحظة التي تمتد لساعة من الزمن تقل أو تزيد قليلاً، قبل أن يعود كل طرف إلى إنتاج اختلافه من جديد، بين منتقد وناغم، أو مؤيد وداعم.. لكن القاسم المشترك هو أن جميع الأطراف، تلتف حول المائدة.. حول الشاشات التي تضبط إيقاع الزمن المسروق من قائمة الإهتمامات الكثيرة والمتداخلة.. انها ساعة تبدأ وتنتهي عند عنوان واحد إسمه برنامج "البرنامج"، والذي يقدمه الإعلامي المثير للجدل واللغط الدكتور"باسم يوسف". بوسط القاهرة، وفي مسافة قريبة من ميدان التحرير "قلب الثورة النابض" وبمحاذاة لميدان طلعت حرب، تنتشر عشرات المقاهي الشعبية، التي ظلت تستضيف الوجوه المعروفة للشباب الثوري، حيث يسترقون بعضاً من الوقت لتدخين الشيشة واحتساء القهوة، في لحظات تبدو أنها استراحة مقاتل .. فضلا عن أن المكان بصفته الإجتماعية ينتمي للطبقة التي كانت وقود ثورة الخامس والعشرين من يناير.. خطونا نحن المكان بحثاً عن مخدع يريح من أعباء العمل، ويسمح بمتابعة رائقة لهذا البرنامج الأكثر شعبية في الواقع العربي. والمفاجآة أن لا مساحة تسمح بالمتابعة، حيث لا مقعد شاغر وسط آلاف المتابعين المتحلقين حول الشاشات (بروديكترس) المزودة بمكبرات صوت عملاقة.. بينما يسعى الندلاء بين الزبائن لتقديم الطلبات الكثيرة، تجولنا وبالكاد عثرنا على كرسيين بعيدين عن الشاشة، حيث لم يتبق من بداية البرنامج سوى ثواني قليلة، لا تضيف إلا مزيدا من عناصر التشويق. كان الرواد في حالة صراع مع الوقت، البعض يستعجل الندلاء للإسراع في تلبية الطلبات والآخر يتوقع ما يمكن أن تحتويه الحلقة الجديدة من البرنامج، وصنف ثالث يتحدى أن تتناول الحلقة موضوعا بعينه، لكن ما أن بدأ البرنامج حتى أطبق الصمت سلطانه، قبل أن تعلوا القهقهات الصاخبة مع أول جملة صادرة من باسم. وبين فقرة وأخرى، حيث تنهال الومضات الإعلانية التي يضمنها البرنامج لقناة (MBC مصر) يبدأ النقاش الصاخب حول المواضيع التي تم تناولها بطريقة ساخرة..البعض يبدي ضيقه وسخطه عن الإيحاءات الجنسية التي تضمنتها الفقرة السابقة والبعض الآخر يشيد بجرأة الإعلامي المصري وذكائه في تناول القضايا السياسية الساخنة، فيما يصر أنصار "السيسي" أن باسم يوسف، ليس سوى آلة سياسية تسوق لأجندات خارجية، لكنه لا يكف عن متابعته باهتمام بل واستمتاع لا مثيل له. نترك النقاش الصاخب ونسرع نحو مقهى آخر لا يبعد كثيرا عن "البورصة" لنلتحق ب«التكعيبة"، وهو مقهى شعبي، يغلب عليه رواد من شكل خاص، شباب من مختلف الشرائح، وفنانين من طراز المطحونين.. تشكيليين وعازفي موسيقى "الأندرجراوند" يقتطعون أوقات استراحاتهم هنا .. ليمارسوا حقهم في تصور الحياة كما يعشقونها، كأنهم يؤكدون ذلك الكوبليه من الأغنية التي تشبههم تماماً "على القهوة في ناس قاعدة بتدوق طعم الوطن". الوطن هنا، يتسع للجميع، حيث يعاد رسمه على لوحات رومانسية حالمة، لا تبعد عن المعنى كثيرا، حتى إن لم تتجاوز إطار اللوحة في قاعة "تاون هاوس" المحاذي للمقهى ولمسرح الروابط .. المشهد هنا أيضاً لم يختلف كثيرا عن منطقة "البورصة " حيث ظل باسم هو سيد الجلسة الساهرة.. ولأن لكل ٍ من إسمه نصيب، يؤكد طارق، الصحفي الشاب ذلك المعنى وهو يحدثنا أن الدكتور باسم وحده القادر على صنع البسمة في وجوه جميع المصريين حتى أولئك الذين لا يحبونه أو أولئك الذين يسخر منهم بطريقة مركزة ومتكررة. يقول طارق: إن الإخوان الذين رفعوا ضد هذا الاعلامي مئات الدعاوى القضائية، يجدون أنفسهم متعاطفين معه اليوم فقط لأنه ينتقد السياسات المتبعة اليوم ضدهم، ويفضح "نفاق" بعض العالميين والسياسيين وازدواجياتهم الواضحة، وهو بذلك -حسبهم- يساهم في توسيع هوامش الحرية.. الحرية التي حاولوا جاهدين -أثناء فترة حكمهم- تأميمها قبل أن يصبحوا ضحايا غيابها اليوم. أكثر ما يثير في مواقف الناس من باسم يوسف وبرنامجه (ذو الشعبية الكبيرة، حيث تشير الأرقام أنه البرنامج الأكثر مشاهدة في العالم العربي ومصنف ضمن البرامج الأكثر مشاهدة عالميا أيضاً بواقع 35 مليون مشاهد في عرضه الأول) إن من اتفق معه في عهد مرسي ودعمه معنويا وسياسيا أثناء استدعائه للعدالة، يتهمه الآن بأنه محسوب على جماعة الإخوان ومدافع عنها، ذلك أن هؤلاء كانوا يرون في البرنامج وسيلة لإقصاء مرسي وزيادة الإستياء الشعبي من حكمه وجماعته، ونظرا للتأثير الكبير الذي يخلفه البرنامج في الأوساط الشبابية فإنهم يخشون اليوم من أن يساهم -بذات الوسيلة- في فضح النظام القائم اليوم، وإسقاط هيبة رموزه لا سيما المشير عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع (المرشح المحتمل للرئاسة). هؤلاء الأنصار، الذين انتقلوا من الضد للضد، لا تعوزهم الحيلة في جمع مجموعة من التهم المتناقضة ضد ذات البرنامج، من بينها "العمالة للماسونية وأمريكا وإسرائيل والإخوان وقطر ..إلخ "، لكنهم في ذات الوقت لا يكفون عن متابعة البرنامج بشغف لا يختلف كثيرا عن شغف محبيه ومتابعيه.