من ثلاثيته الأولى إلى آخر أعماله تشكلت رحلة داخل الذات بتعبير الناقد طاهر بكري... رحلة بدأت بالمجسد وعرجت نحو المجرد، عروجا نحو التحقق بأفق إنساني... وفي كل مرحلة عبرت أعمال ديب عن رحلته مع الكتابة التي استغرقت نصف قرن.. بدأها بما يوصف بالواقعية وختمها بكتابة تنشد المطلق وفي الوقت ذاته تظل تحيل للعمق، عمقا ظل يمد الكاتب، وظل الكاتب يمد العمق بعصارة خبرة السفر عبر التضاريس واكتشاف العوالم، من مسقط رأسه بتلمسان إلى الغرب بتنوعاته من فرنسا إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية مرورا بأوربا الشمالية وبالتحديد فنلندا. لايمكن استيعاب مسار ديب بدون ربطه بالسياقات التي صاغت منجزه وبلورت ما نسجه من نصوص سردية وشعرية، بدأها بواقعية في بداياته بثلاثيته الأولى (الحريق الدار الكبيرة النول) التي كتبت واقعا جزائريا في السنين القليلة التي سبقت الثورة فكانت نصوصه مصورة بروعة للواقع بتأثيراته النفسية والاجتماعية عبر شخصيات الأم عيني والطفل عمر والمناضل سراج وبقية الشخصيات التي سكنت الذاكرة كإحالات لتاريخ وليس فقط كشخصيات رسمها الخيال الروائي. وكان ديب مع كاتب ياسين ومالك حداد ومولود فرعون ومولود معمري وآسيا جبار روادا أسسوا في الكتابة بالفرنسية، وتشكلوا بالتثاقف مع الثقافة الفرنسية ولكن بتواصل مع خصوصيات مجتمعهم فكتبوا بلغة تحمل رغم لاتينية حروفها وشم جزائريتها. وبعد استرجاع الاستقلال وتبلور معطيات أخرى، جاءت مرحلة رؤية نقدية مع روايات ك "من يتذكر البحر" و«رقصة الملك" وهي كتابة عن خيبة إجهاض الحلم وجاءت مرحلة مع "سطوح أورسول" و(نوم حواء) و(ثلوج من رخام) لتدشن تحولا وتجاوزا، لكن ظل التواصل الذي يمكن تلخيصه بالبحث عن تمثل الذات وصياغتها. في حوار أجراه معه عثمان تزغارت بيّن ديب ما يتصل بخصوصيات مساره وما يتصل بالمراحل التي يتوقف عندها النقاد فقال: (اختلاف مضامين أعمالي في تلك المراحل المختلفة يوجد تفسيره في تطورات الأحداث التي عايشتها أو كنت طرفا فيها. وأذكر أنني قبل أن أكتب روايات "الثلاثية الأولى"، كانت لي كتابات أخرى لم أنشرها، سابقة لفترة حرب التحرير، وبقيت غير معروفة، وكانت كتابات ذات هواجس فنية وجمالية بالدرجة الأولى، تختلف في مضامينها كثيرا عن "الثلاثية" التي جاءت في خضم الحركة الوطنية الجزائرية، وكانت إسهاما مني في التعريف بقضية بلادي وثورتها، حيث قررت آنذاك أن من واجبي أن أصهر صوتي في الصوت الجماعي للشعب الجزائري، وأن أجعل من كتاباتي أسلحة بيد الثورة الوطنية. أما بعد الاستقلال فقد اختلف الوضع كثيرا. الاستقلال بالنسبة لنا ككتّاب وطنيين متمرّدين على الاستعمار كان حدثا رائعا.. ذلك أننا وضعنا كل إبداعنا في خدمة قضيتنا الوطنية، وعندما حصلت البلاد على استقلالها، أصبح بإمكاننا أن نتحرّر بدورنا، وأن نصبح "كتابا مستقلِّين" يعبِّرون أساسا عن ذواتهم ومشاغلهم الحميمة، دون أن يكون مفروضا علينا كما في السابق أن نكون محامين نُرافِع باستمرار باسم شعوبنا وأوطاننا. صحيح أن كتاباتنا ظلّت مرتبطة ببيئتنا ومجتمعاتنا، لكن مشاغلنا أصبحت شخصية وحميمية أكثر، ولم تعد متعلقة فقط بالنضالات السياسية والاجتماعية، كما في فترة حركة التحرّر. وهكذا بدأنا تدريجيا نكتشف ذواتنا ومشاغلنا الحميمة ونعبِّر عنها في كتاباتنا.. وأصبح الفرد هو مركز اهتمامنا، حتى في أعمالنا الجديدة ذات البعد الوطني). لعل ما يتميّز به ديب هو أنه ارتبط بالكتابة وفضل العزلة فلم يدل إلا بأحاديث قليلة ولم يشارك في النقاشات والمعارك التي خاضها غيره.. وفي عزلته كتب متأملا الذات ومبنينا لها بتمثل شكلته حواريته مع الثقافات وخبراته التي بدأها بمهن مارسها في تلمسان ومنها الصحافة والترجمة.. كتابة ديب هي تمثل للذات، بداية تمثلها جماعية ثم استغرق في تمثل الذات المفردة... وبنضج التجربة وتراكم العطاء حضر ما يحيل للإشراقات الصوفية التي تمتد لتخرق الحجب وتحرر من النسق والتصنيف. في حوار أدلى به عقب الاستقلال لمجلة "إفريقيا الأدبية والجمالية": "فالإشكال فيما يخصنا نحن كروائيين جزائريين هو تخطي ذلك المحظور والتحدث عن الذات، وتجاوز بعض الممنوعات الأخلاقية النابعة من تربيتنا (...) علمونا أن نقدر أكثر فأكثرالكرامة والحقيقة. لكن الرواية تفرض تجاوز ذلك، فينبغي المساس بالكرامة للذهاب إلى ما هو أبشع أحيانا وقبيح أحيانا أخرى: الحقيقة". حضور الذات لا يحمل ما قد يراه البعض انسلاخا عن الهم العام أو عن الوطن، بل هو إعادة صياغة لما اختل لما تم طمس الذات، تمثل الذات باكتشافها هو منطلق تمثل الكلي... وفي تمثل الذات تمثلات تخرج من الذات لتعيد الدخول برؤية تنير الدهاليز وتنير المعتم والمبهم... تمثلات بامتصاص ما يتراكم من خبرات السير في الآفاق واكتشاف المدارات المختلفة... فمن تلمسان وإيقاعات الحوزي إلى أمريكا وتوقيع الجاز، كان ديب في صمته يستنطق بلاغة الكون ويكتب ما ينقدح من تجليات تقول الذات وفي قول الذات تقول الإنساني الذي يصهر بالعروج ما يتشتت بتمدد أبراج بابلية، تمدد بإلغاء الذات وبالغائها لا تستقيم أي حقيقة ولا يحضر البليغ الذي يقول التجلي... كان ديب يترقب فجر إسماعيل، فجر الانبعاث بكتابة تشف بشعرية تنسج عبارات العبور، تنسجها بما يفارق العابر ويستقيم دالا في ديمومة الإنساني. وفي عزلة ديب ما قد يمثل رسالة قابلة لعدة قراءات، ومثله عاشت في عزلتها يمينة مشاكرة مع اختلاف في الظروف والحيثيات بطبيعة الحال . ولكن العزلة في سياق ديب ليست انفصالا بل تموقع قد يمثل عمق التواصل والاتصال... فهي عزلة متصلة ومتوجة لخبرات تراكمت.. إنها كعزلة متصوف يجاهد في مكابدة السفر في مدارج السالكين... عزلة السفر نحو رؤية الوجود، سفر بلغة، من لغة الثلاثية الأولى إلى لغة آخر أعماله، لغة تدرجت من درجة نحو أخرى، وفي كل درجة يشتغل الكاتب بغية تحقيق يهندس بها سكنه الوجودي واللغة بالتعبير الهايدغري هي ذلك المسكن. ديب من الرواد الذين نبضوا بقوة إبداعية، قوة تكثفت برؤية أنطولوجية أمدت العطاء الجمالي بقوة التوليد الدلالي والتأويلي.