"تحت السماء الأولى" كان مدخلي لعوالمه الساحرة، المسكونة بعجين اللغة ورائحة الخبز، التي تنضج على تنور الوقت، وهو يكابد أقدار الغربة.. يقول لم تكن تلك "غربة حقيقية"، لأن مجاز اللغة رافقني.. "الغريب هو غريب اللسان.. لم تكن السماء هنا ثانية إطلاقا، بل امتداد للسماء الأولى".. السماء الأخرى تشكلت في مدن الصقيع والضباب.. هكذا يُعرِفَ غربته التي طالت.. ثم أتت قصيدة "سورة الحديد" أو "القصيدة المفخخة" للشاعر الارتري محمد مدني لتضع القاطرة على سكة الترحال الجديد/ القديم.. هكذا بدت الصورة شبه مكتملة أمامي. قبل أن ألتقيه في حوار مطول.. في زمن ملتبس بهدير الشعوب وشعارات الربيع الذي لم تقطف كل ثماره بعد.. أو أُجهضت قبل أن يحين زمن إيناعها.. كان حوارا هادرا كأصوات الناس في الشوارع.. احتدمت الأسئلة.. وبدا مسلحا بكل شروط منطقه ليخرج اللقاء مختلفا على صفحتين بجريدة.. افترقنا مختلفين في التشخيص السياسي متفقين على قصيدة "مدني" وأسئلة الشعر. إنه الشاعر العراقي الشهير سعدي يوسف. (2) ^ على مكتبه المكتظ بالمجلات والكتب وقصاصات الجرائد الصباحية ارتشفنا قهوة الحوار، بدا مسكونا بالهواجس الكثيرة، وبدوت أتفحص ملامحه السمراء.. يفاجئنا الصحفيون في كل مرة بفواصل تقطع حبال الوصال.. حيث يعدون العدة لعدد الغد من "أخبار الأدب" - إحدى أهم الأسبوعيات الأدبية العربية - التي يشرف عليها بجانب مشروعه الروائي، الذي استمر لأكثر من أربعة عقود.. يتوقف دون أن يفقد بوصلة الاتجاه، ثم يسألني لماذا لا تكتب شيئا ما عن الأدب الارتري.. أبتسم ثم أسحب من محفظتي إصداري الأول "مرايا الصوت: أنطولوجيا الأدب الارتري"، يتلقف الكتاب ويعدني بقراءته قبل أن يخصص لاحقا 8 صفحات كاملة من الأسبوعية لنشر المختارات منه.. إنه الكبير "جمال الغيطاني"، الروائي المصري الشهير صاحب "الزيني بركات".. الذي ملأ الدنيا جدلا وصخبا بتجاربه الأدبية وآرائه السياسية. (3) ^ لقاء رتب له القدر كل تفاصيل الحضور.. بجانب جهود الشاعر عز الدين ميهوبي، كان ككل الأشياء النفيسة قصير العمر.. هكذا التقيته على بهو "السان جورج" الفندق العاصمي العتيق.. تبادلنا التحية وهو يتطلع إلى ما أحمل بفضول.. سلمته نسخة من رواية "أحزان المطر" للروائي المبدع أحمد عمر شيخ، تصفح صفحاتها الأولى ثم عاد يسألني هل كاتب الرواية شاعر بالأساس، أكدت حدسه فابتسم بيقين الشاعر المتمرس في تخليقات المفردة.. وحمل الرواية بين أوراقه الكثيرة ومضى.. قبل أن يهاتفني ميهوبي لاحقا ليؤكد لي أن الرجل سعد بتلك الرواية التي فتحت أمامه عوالما يجهلها.. إنه الراحل المقيم الشاعر المختلف كزهر اللوز أو أبعد "محمود درويش"! (4) ^ لم يكن مختلفا عن صوره في الشاشات التي تطالعنا بين فترة وأخرى بمحياه السمح.. جلست أحاوره لساعات طوال، والروائي "أمين الزاوي" مدير المكتبة الوطنية الجزائرية - حينها - يتعجل لإنهاء اللقاء.. حدثني أنه كان ينوي مكالمتي على الهاتف قبل أن يتفاجأ بحضوري، حيث حدثه عني الصديق والشاعر الفلسطيني نجوان درويش.. امتد الحوار من الشأن الفلسطيني إلى الأدب والثقافة وتعدد الديانات والمذاهب وحين أممت بالمغادرة وعدني بلقاء آخر لاستكمال ما سقط عن ذاكرة الحوار الصحفي.. شكرته على لطفه وغادرت ممتلئا بكل تفاصيل الجمال. إنه بابا القدس الشريف الأب "عطا الله حنا". (5) ^ في ندوة فكرية عاصفة أثارت الكثير من اللغط استمعت إليه مسكونا بأسئلة تتجاوز الآني والراهن.. وحين أتت فرصة الاختلاء به حملت إليه ديوانه بغرض التوقيع ثم سألته ما الذي تبق من "علي" في تجربته.. ابتسم ثم أجاب هذا الجسد الهرم الذي ترى.. إنه الشاعر السوري (علي أحمد سعيد) المعروف ب "أدونيس".