تستثمر التنظيمات والتيارات العابرة للأوطان وأبواقها الإعلامية في التباس لإيهام الناس بأن هناك تعارضا بين حق المواطنين في انتقاد ممارسات الأنظمة الحاكمة ومعارضتها، وبين ولائهم ووفائهم لأوطانهم، لكننا نقول لهم إنه من واجب المواطن الحقيقي – وليس مجرد حق – أن يستنكر الفساد وينأى عن المشاركة في دواليبه، ويحارب مظاهره التي تنخر أغلب بلادنا العربية في صور شتى وبأساليب متعددة، كالاحتكار والبيروقراطية والرشوة والمحسوبية وانعدام المساواة والضبابية، لكن ذلك يتم عبر وسائل داخلية محلية على غرار ما يقوم به القائمون على هذا المنبر الحر وما يقوم به جميع الخيّرين الذين يريدون الأحسن لأوطانهم والأفضل لمجتمعاتهم، لا عبر وسائل خارجية عابرة للقارات، كالتي تُحرّكها أجندات معروفة عربيا وغربيا، للتركيز على بعض تلك المظاهر في بلدان والتغاضي عن ذات المظاهر في بلدان أخرى، أو تلفيق وفبركة أوضاع – مثلما عودنا أغلبها – لإثارة مشاعر الناس، مستغلين عاطفتهم الدينية الجياشة وتأصّل قيم الأخوة والتضامن لديهم، وقد تصل الوسائل – وقد وصلت – إلى تعبئة الناس على حمل السلاح وإزهاق الأرواح، فتحولت أوطانهم إلى أشلاء وبقايا أرواح، فانقلبوا بفعل فاعل من معارضين إلى خونة يتآمرون مع الخارج لإسقاط الداخل. فلقد لفت انتباهي في آخر حلقة من مواضيع الوعي المنشورة تحت عنوان: (الفرقة الناجية بين منحة الولاء ومحنة البراء) في هذا المنبر الحر، أن بعض أصحاب التعليقات المنتقدة للموضوع عيّر معلّقا آخر مؤيدا للطرح بالقول: (أنت جزأرة) ؟! وكأن صفة الانتماء للجزائر سُبّة أو شتيمة يمكن أن يستعرّ بها الموصوف، وكأني بقائلي تلك العبارة يصرّحون بالقول إننا براء من الجزائر، وقد لهجت ألسنة حالهم مؤكدة ألسنة مقالهم في انتفاضة كبيرة – ليست الفلسطينية طبعا – ضد من أعطى رأيه فيمن يوالي أفكارا وافدة، تحت أي مظلة كانت، ولو كان تنظيما يُصرّ أصحابه على وصفه (بالإسلامي). وكأن الجزائر المسلمة منذ عهد عقبة بن نافع الفهري رضي الله عنه، والتي ساهمت في نشر الهداية في كافة ربوع إفريقيا وتواخم أوروبا بقيادة الجزائري القح طارق بن زياد رضي الله عنه، تنتظر حتى منتصف الثمانينيات لكي يجلب لها الشيخ نحناح رحمه الله الإسلام من مصر بعد مبايعته التنظيم العالمي، غير آبه هو ومرشديه بتحذيرات الشيخ سحنون رحمه الله سليل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من مغبة الانخراط في مشروعات خارجية لا تتلائم مع خصوصيات المجتمع وأولوياته، وضاربا عرض الحائط استشراف الشيخ بن باديس رحمه الله لخطورة الأمر على الأوطان، ومتجاهلا لتوقعات الأستاذ مالك بن نبي مفكر زمانه ومستشرف زماننا ومنظر النهضة الحضارية للعالم الإسلامي على محور طنجة - جاكارتا، الذي استفادت منه الكثير من الدول لمغادرة مراتبها في سلم التخلف والانحطاط، وتفطّنه لفخ العالمية القاتل. والذي زادني حرصا على إفراد هذه المسألة بحلقة خاصة، هو الديماغوجيا التي استخدمها أصحاب تلك المقولة – رغم وصفهم المقال السابق بالديماغوجي – حينما أردفوا ما اعتقدوا أنه سُبّة (أنت جزأرة) بالقول: (يعني تابع لإيران) ؟؟!! ببساطة ومنذ مرحلة الابتدائي نعلم ويعلم هؤلاء أن كلمة (يعني) تعني تفسير ما قبلها، فهل الاعتزاز بالإنتماء للجزائر الموصوف بمصطلح (الجزأرة) – ولا داعي لإعادة التفصيل في ملابسات هذا المصطلح الذي أريد بإطلاقه تخويف العامة وأطراف معينة في السلطة في مرحلة ما كان فيه مطلقوها جزء من السلطة نفسها (راجع الحلقات الثلاث من موضوع الوطنية وإسلاميو الجزائر) – (يعني) التبعية لإيران ؟!؟! تلكم (الأيرنة) أو (الأرننة) أو أي مصطلح يدل على ذلك و(يعنيه) وإلاّ فما دخل إيران في (الجزائرية)؟ هل تقبل عقولهم الكبيرة أن نقول لأحدهم بنفس منطقهم: أنت وهابي (يعني) أنك تكفيري ؟! أو أنت إخواني (يعني) أنك إرهابي ؟! لا يجوز هذا التعبير، رغم أن فصيلا كبيرا من المنتمين للوهابية أو الإخوان انخرط فعلا وبعضهم تولى إصدار الفتاوى – وكتاباتهم شاهدة على ذلك – في تشجيع التكفير والإرهاب. لكن المنطق السوي يقتضي أن يقال له أنت وهابي يعني تابع للتيار الوهابي ومقره السعودية أو أنت إخواني يعني تابع لتنظيم الإخوان العالمي ومقره مصر أو الأردن. هل يعلم هؤلاء أن الجزائري القح لا يزعجه أبدا أن يُقال له أنت جزائري، ولو كان داخل فرنسا العدو الاستعماري، بل يزيده ذلك اعتزازا وفخرا وتمسكا بوطنه، في حين يعترُّ هؤلاء ويخجلون ويتضايقون بوصفهم وهابيين أو إخوان، رغم انخراطهم وبيعتهم وتواصلهم مع مشائخ الخارج. وهو أمر منطقي وطبيعي لأنهم يحملون ولاءً غير منطقي ولا طبيعي لأوطان غير الذي يعيشون فيه وينعمون بالأمن داخل أسواره ويتعلّمون ويستطبّون ضمن مؤسساته بالمجان، منذ ولادتهم في المصحّات العمومية إلى غاية مناقشتهم الدكتوراه في الجامعات الجزائرية. إن المرحلة التي تمر بها الجزائر وباقي الدول العربية والإسلامية مرحلة حساسة جدا، تستدعي يقظة خاصة وفطنة ووعيا إضافيين عن ذلك الذي ركّزت عليه مدرسة العلماء الجزائريين وفكر مالك بن نبي مرورا بجمعية القيم ورابطة الدعوة الإسلامية ووصولا إلى جهود مشائخنا ومفكرينا وجميع الخيّرين في كل شبر من ربوع وطننا الحبيب، للدفاع على الحمى وحماية حدودنا المستعرة المحاطة بالاضطراب، في ظل تنامي الأطماع الإستعمارية الحديثة، التي تريد للدولة الوطنية الإنحسار، لتترك المجال لشرق أوسط جديد، يدين بالولاء لجلاده ويدفع فلذات أكباده (باسم الدين) لخدمة مشاريع الاستنزاف والاستغلال والضمور والانحلال. إن الجزائري أو (الجزأرة) التي يصفه بها منبهروا الأفكار الواردة وتابعوا التوجيهات الخارجية ولو كانت في غلاف (إسلامي)، حريص كل الحرص على خدمة أمته من خلال ثغره الذي يرابط عليه، ومن خلال رفاه وطنه وأمنه، تماما مثلما هو مهتم بأمر المسلمين داخل ثغورهم، ولا يمنعه ذلك أن يفرح لحلب بنصرها السوري، مثلما فرح قبل ذلك لإيران حينما حققت نصرا داخليا على طغيان وعمالة الشاه – الشيعي كذلك – وفرح لسوريا قبل التآمر عليها – ولعله سبب التآمر- حينما حققت اكتفائها وأمنها الغذائي ودعمت المقاومة في لبنان وفلسطين مثلما فعلت الجزائر ذلك، كما فرح لتركيا حينما حققت قفزة نوعية في الاقتصاد قبل جنون أردوغان بوهم الخلافة وطموح التوسع، مثلما سيفرح لنصر السعودية وقطر على أراضيهما واستقلالهما عن القواعد الأمريكية القابعة بفتاوى جواز الاستعانة قريبا إن شاء الله بعد نجاح مفاوضات الأستانة، يفرح لهما ولكافة البلاد العربية والإسلامية لانتصاراتها داخل حدودها بعيدا عن غطرسة البراميل وفرعنة the oil. إن الجزائري الأصيل لا يثنيه أبدا حقد وحسد وغيرة المتحزبين لتلك الأفكار، ولا يُشكّك أبدا في قناعاته التي تُظهر الأحداث يوما بعد يوم صحّتها وسلامتها ونصاعتها وجدارتها في البقاء، ولا يُغيّر مواقفه الثابتة – غير المتقلبة باتجاه الفئة المتغلبة – مجرد هُراء مغلّف بشفقة (الدعاء بالهداية)، وكأن الذي لا ينتمي إلا لوطنه، ولا يوالي إلا شعبه، ولا يخدم إلا مجتمعه، مُستحقٌ أن يُقال له: الله يهديك للحق. وهو فيما يعتقده ويأصّل له الراسخون ويطابق المنطق والعقل عين الحق، وغيره المغرّر بهم المنوّمة عقولهم المعطلة مادتهم الرمادية هم فعلا من يستحقون الشفقة والدعاء: (اللهم أرنا الحق حقا وأرزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا اجتنابه).