قبل البدء في هذه السلسلة المزمع تقديمها تبعاً لتطورات الأحداث المحيطة بنا، لاسيما المتعلقة منها بأعراض حمّى الترشيحات، وهوَس تمثيل الجماهير في بعض أو جميع المستويات، يجدر بنا التذكير بأنّ "التاريخ لا يُصنع بانتظار الساعات الخطيرة والمعجزات الكبيرة..بل يبدأ من مرحلة أداء الواجبات المتواضعة، الخاصة بكل يوم، وكل ساعة، وكل دقيقة.." مثلما عبّر عنه الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، العبارة التي تعمّدنا استخدامها كمدخلٍ لمحور "التغيير.. إرادة وإدارة"، الذي تفضّل هذا الموقع الهادف بتخصيص حيّز لها ضمن قسم الآراء والمساهمات. وانطلاقاً من قاعدة تغيير ما بالأنفس نتيجة انتمائي لأسرة التعليم والبحث، تلقيت بعض التحفظات التي أبداها بعض القراء مفادها أنّ كثيراً من مواضيع هذا المحور ركزت على مهام الجامعة وقطاع البحث العلمي (الوهن الجامعي إرادة أم إدارة؟!!..، هل نميز بين الإطار الكادر..والكادر الإطار؟!!..، الخيانة؟!!..، الباب؟!!..، الترقية بالفساد؟!!..، الجامعة ولعب الأطفال؟!!..، كما نكون يولى علينا..الفرق بين التغيير والتبديل؟!!..، ملتقيات من ورق..أفلام كرتون علمية؟!!..)؛ هي من قبيل نشر غسيل القطاع، و أنّ تلك التي ركّزت على موضوع الغش الدراسي وتداعياته على المستويين التعليمي والجامعي (إرادة الصغار ..لتغيير أوضاع الكبار..، باكان وفرحتان..بين لذة الفوز؟!.. وزور الكتمان!!..، السنوات العجاف.. وموسم الحصاد؟!!..)؛ هي من قبيل التستّر وراء مظاهر عادية أصبحت من أمر الواقع، تُشهّر بحفنة تلاميذ لا حول ولا قوة لهم اضطروا إلى الغش لأنّ المجتمع يُقدر الغشاشين - حسب رأيهم - وأنّ في ذلك تهرّباً من طرح مواضيع سياسية تنتقد ممارسات وأساليب أكبر من المدرسة والجامعة؛ حينما يتعلق الأمر بمؤسسات الدولة ومجالسها النيابية!! وأذكر أنّ بعضهم ما فتئ يُكرّر التساؤل - كلما انتقدنا ظاهرة الغش أو تزوير العلامات - لماذا هذا الحقد على ولايتنا وكثير من الولايات تتصدّر قائمة الترتيب بواسطته؟! وغيرها من الاسطوانات المشروخة والمغالطات المفضوحة التي يكذّبها واقع التعليم ومنطق النجاح!! ولماذا لا تتكلمون عن الغش الأكبر والتزوير الأكثر في الإنتخابات؟! أم أنكم تخشون الخوض في مواضيع السياسة ؟!!.. ولقد تعمّدت التذكير في بداية هذه السلسلة بأهداف المحور، المستمدة أساساً من أهداف التغيير، ليترسّخ في ذهن كل منّا القانون الرباني الصّريح: "حتى يغيّروا ما بأنفسهم"؛ أي أنّ التغيير الحقيقي يبدأ من النفس ومن الموقع الذي نحن متواجدون ضمنه، فالمحيط الإداري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي هو كلٌ متكامل، لا يقبل الانفصال ولا التجزيء، ويتأثر ويؤثّر كل بُعد فيه بالآخر إن بالإيجاب أو بالسلب.. ولأنّ السياسي والإداري والنائب والسناتور والقاضي والمأمور والجنرال والبروفيسور هم نحن أنا وأنت، وليسوا كائنات من كوكب آخر تنزل لتُنفّذ منظومة منفصلة عن منظومة عيشهم أو غريبة عن تربيتهم وتعليمهم وتنشئتهم الاجتماعية، ولأننا حينما نجد رئيساً أوْحَدَ لحزبٍ يدعو الآخرين إلى ضرورة التداول، أو نائباً حصرياً (Exclusive) لتيار ينادي غيره بتطبيق الديمقراطية، فإننا نوقن بأنّ المشكلة لدينا وليس لدى الآخرين، أي مشكلة تقديم أولوية أداء الواجبات على المطالبة بالحقوق مثلما عبّر عن ذلك بن نبي رحمه الله. وقبل أن ينصرف ذهن كل منا إلى تبعات العملية الإنتخابية وما يرتبط بها من مظاهر التزوير وخيانة أمانة التمثيل واستغلال نفوذ المنصب النيابي وتبديد الأموال العمومية التي يتداول بشأنها ممثلوا الشعب واستعمال الحصانة التمثيلية، وغيرها من الموضوعات التي سوف نحاول تخصيص حلقات منفردة لكل منها؛ فإنّ الغش الانتخابي الذي أريد أن يفهمه كل منا هو ارتباط الطموح في الترشّح لتمثيل المواطنين في إحدى المستويات النيابية (البلدي، الولائي، الوطني) بوسائل غير مشروعة؛ إذ يحق لأي طامح رفع سقف آماله بما لا يتعارض واحترام مشاعر الناس المفترض فيه تمثيلهم ومراعاة آلامهم. حيث سمعنا وسوف نسمع مع اقتراب موجة الترشيحات عن أشخاص يعتزمون تصدّر قوائم أحزاب فاعلة - في نظرهم - بأي وسيلة، فيستغلون نفوذهم لدى السلطات (مدنية كانت أو عسكرية)، وآخرون مثلهم يستغلون المال، أو ما يحلو لوسائل الإعلام تسميته ب "الشكارة" في زمن التقشف وشد الحزام، وبعضهم يستغلون "العرش" أو "القبيلة" لحصد أصوات بني عمومتهم، وآخرون يستغلون "مظاهر التديّن" ليترشحوا باعتبارهم أوصياء على الشعب المسلم؟!!.. إنّ وجه الانتقاد لا يُوجّه لهؤلاء على اعتبار التيار الذي انضووا تحت لواءه كمناضلين، وإنما لطريقة لعب تلك التيارات على الحبل المستخدم ليُصدّروا أسماء مرشحيهم للناخبين على أنهم الأصلح لتمثيل الشعب، وكيف يمكن لحزبهم حصد أكبر قدر من الأصوات يمكّنهم من أكبر نصيب في الكعكة، بغض النظر عن صلاحية ممثليهم وكفاءتهم ومستواهم الفكري والعملي، وبصرفه عن ممارساتهم السابقة وتجاوزاتهم في مناصب أقل، والأهم من ذلك مفارقتهم وابتعادهم عن حمل همّ تغيير أوضاع الناس للأحسن، ومغادرة منطقتنا وبلدنا وامتنا ذيل الترتيب في شتى القطاعات. فإذا كان الإنحراف منذ البداية في مرحلة الترشيحات، فإننا لا نرجو استقامة في نهاية العملية؛ أي حُسن تمثيل جموع المواطنين ومتابعة انشغالاتهم، لسبب بسيط ذُكر في الأثر: "إنما يتعثّر من لم يُخلص"!!..