كلما اقتربنا من مواعيد انتخابية كلما شغلت جميع وسائل الإعلام - مختصة بالشأن السياسي كانت أو غير ذلك – حيزها المكتوب أو الأثيري المسموع منه أو المرئي بهذه المادة الدسمة "الانتخابات"!!.. وإذا كانت الصحافة لدى أغلب الدول تركّز على الجدوى من الانتخابات وأثرها على يوميات المواطن وحياته، ومصير مستقبله، انطلاقاً من روافد ماضيه؛ فإنّ وسائل الإعلام لدينا تغرّد خارج سرب الإعلام المحترف!!.. فقلّما نجد - حتى لا نبخس الجادين جهدهم - في طروحات الإعلاميين وبرامجهم - المُسايرة ل"موضة" تغطية الحدث الانتخابي - ما يتوافق مع روح الانتخابات وجوهرها، حيث يُركّز أغلبهم - عن قصد أو بدون وعي منهم - على قشور العملية، تاركين لُبّها للمتلاعبين بأصوات الناس، والمتاجرين بآمالهم، ولباعة "الريح" الانتخابية؛ لتُغمَر كل محاولة جادة في التغيير، ويُطمَس كل بصيص أمل يتحراه المواطن لغد أفضل، وليُحرَم الوطن من نسمات النقاء الإداري العليل في التصوّر أو الممارسة، بالنفخ في تلك "الريح" الهوجاء، التي تلعن سابقتها، وتُدمّر كل شيء بريء، وتُجفف منابع الصفاء والاستمرار أكثر من أختها؟!.. وإذا كان هذا هو الحال في اغلب وسائل الإعلام الوطنية، فإنه أسوأ وألعن في القلة المتواضعة من الوسائل المحلية، لأنّ أثره علينا مباشر، وعواقبه مستعجلة.. حيث نقرأ ونسمع ونشاهد منذ أيام في أغلب الجرائد والقنوات والمحطات حديثاً عن الانتخابات، لا يهم البقية المتبقية من المواطنين الذين يهمّهم مستقبل البلد عموما والمنطقة بصفة خاصة، رغم وصف معدّي تلك الحوارات برامجهم ب "التحليل"!.. وهو أبعد ما يكون عن ذلك؛ لأنّ التحليل - مثلما يفهمه مختصو الإدارة والسياسة والقانون والاجتماع وكافة فروع العلوم - يقتضي تشخيص الواقع وتحديد الأهداف وتقييم تنفيذ البرامج وانعكاساتها على المجتمع، بناء على أثر التغذية العكسية FeedBack، ليُعاد الاستفادة من مخرجات العملية السابقة كمدخلات معدّلة في المعادلة اللاحقة.. ومن هذا المنطلق لا ينبغي أن ينزعج معدُّو تلك الحوارات المحترمين ولا ضيوفهم الموقرين، إذا ما أبدينا وجهة نظر مغايرة لتلك التي درجوا على اعتمادها كلما اقتربت تلك المواعيد، وذلك لاعتبارين هامين؛ أولهما شكلي والآخر موضوعي: فمن الناحية الشكلية؛ فإنّ قراءة محتويات التشريعات والقوانين العضوية على الهواء وبتلك الطريقة السردية تُشعر المستمع بالملل، وتُنفّره من العملية الانتخابية أكثر مما ترغبه فيها، في الوقت الذي يتلقى فيه مسؤولي تلك المنابر التوجيهات بتجنيد أكبر عدد من المهتمين بالحدث، فتجدهم يسيؤون إلى العملية أكثر مما يحشدون لها وهم يحسبون أنهم يحسنون!!.. أمّا من الناحية الموضوعية - وهي الأهم في هذا المقام - فإنّ سمة "التحليل" تقتضي الغوص في تفسير ظاهرة الانتخابات، باعتبارها نسقاً (System) متكاملاً، يستقبل مدخلات (In puts) متداخلة: سياسية، اقتصادية، بيروقراطية، اجتماعية ونفسية، وحتى ثقافية، ويتم خلاله عمليات تشغيل (Processing) وتفاعل، ليتم إفراز مخرجات (Out puts) طموحة وفي نفس الوقت واقعية، تُغيّر من أوضاع المواطنين، وتعيد ترتيب الأولويات في "أجندة" الساسة، بما يوائم بين الاحتياجات الملحة والمستعجلة والتطلعات المستقبلية من جهة، والإمكانيات المتاحة والموارد المتوفرة من جهة أخرى.. وإذا غاب عن مُعدّي تلك الحوارات أو تلك الحصص، فإنه لا ينبغي أن يغيب عن ضيوفهم من مختلف التخصصات؛ بأنّ سرد المواد التي تنظم مختلف مراحل العملية الانتخابية - والذي يأخذ حيزاً كبيرا من وقت القارئ أو المشاهد أو المستمع - لا يهم المواطن ولا يشكّل له أي إضافة عملية. فلا تكاد تخلو أي أسرة كبيرة في أي ولاية و في ولايتنا بشكل خاص من خريج أو طالب أو تلميذ طامح في تخصصات الحقوق أو السياسة أين يتناول مادة القانون الدستوري بالتفصيل الممل - رغم تحفظنا على النسب الحقيقية للتحصيل والنجاح - ولا تمثّل تلك الحلقات - رغم كثرتها - مناط اهتمام الراغبين في غد أفضل، ناهيك عن الأغلبية الساحقة المستقيلة من الواقع بحكم ممارسات الساسة، وبيروقراطية الإدارة، واحتكار رؤوس الأموال، والأكثر من ذلك خواء "كرتونات" الاختصاص وديماغوجية وسائل الإعلام!!.. لقد غاب فعلاً عن مختصي القوانين والدساتير - وأقصد الديماغوجيين منهم - أنّ القانون جاء لحماية الأفراد لا لعقابهم، مثلما غاب عن مختصي و"محلّلي" قانون المرور قبلهم أثر التربية المرورية، ودرجة الرقابة التقنية على منجزي الطريق (المقاولات) قبل استخدام التقنية (الرادار) لرقابة مستعمليه، ومدى احترام مواصفات الاستيراد لمتعهدي بيع "حاصدات" الأرواح، وغيرها من العوامل التي تتكاتف مع تسرّع الطائشين وتجارة التراخيص ما يكفي لتصنيف "الجلفة" الأولى في إرهاب الطرقات؟!!.. لقد غاب عنهم أنّ القوانين العضوية إنما جاءت لتكريس الدستور وتطبيق مبادئه، حيث لا طائل من الحديث عن المعامل الانتخابي، وتقسيم البواقي، وآجال إيداع القوائم،..وغيرها من الشكليات التي لا تهم أكثرية المنتخِبين بقدر ما تهم حفنة من المنتخَبين، ووصل بهم البذخ الإعلامي إلى شرح علّة تفرقة المشرّع بين الأصبعين (الأيمن والأيسر) في البصمة؟!!.. لا طائل من ذلك كله - رغم إمكانية تخصيص حلقة واحدة لهذا الشأن التقني البحت - إذا كان في معزل عن الحديث عن الحرية والديمقراطية اللتان مهدت ديباجة الدستور لهما، وبعيداً عن الحديث حول السيادة والاستقلال الوطنيين، وعن دولة المؤسسات، وعن مشاركة الجزائري والجزائرية في تسيير الشؤون العمومية، وعن القدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وعن مبدأ سموّ القانون، وعن قيمة النزاهة، وعن القضاء على أوجه التفاوت الجهوي، وعن بناء اقتصاد منتج وتنافسي في إطار التنمية المستدامة، وعن المساهمة الفعالة في التقدّم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي في عالم اليوم والغد.. وغيرها من القيم النبيلة التي تحملها ديباجة الدستور، والتي بدونها تبقى القوانين مجرّد مواد مهجورة لا روح فيها ولا حياة، نتذكرها كل 05 سنوات عبر تلك الجريدة أو ذاك التردد!!.. الحلقة الأولى: الغش الانتخابي ؟!! الحلقة الثانية: الطيب، الجِلف والسارق ؟!!.. الحلقة الثالثة: البرنامج الانتخابي "القوة والأمانة" الحلقة الرابعة: بين الرأس والذيل.. من "الشكارة" إلى "الكرتونة" ؟!!.. الحلقة الخامسة: الولاية المليونية "إنتخابياً" ؟!!..