عادت إلى الواجهة هذه الأيام ، قضية محاولة الخارجية الفرنسية للتأثير على الجزائر لقبول دخول الحركى إليها وزيارة أقاربهم أو الترحم عليهم في مقابرهم. وفي غياب موقف واضح من طرف الحكومة، أصدرت منظمة المجاهدين بيانا واضحا، تؤكد فيه عدم قبولها للضغوط الفرنسية ، ومن خلاله عدم السماح للحركى بدخول الجزائر. ولكي تتضح الأمور وجب التعريف بهذه الفئة التي شدها الحنين للرجوع إلى الوطن الأم، وهي فئة لا يعرفها أجيال ما بعد السبعينيات، فمعنى مصطلح "الحركى" هو أنهم فئة من المواطنين الجزائريين الذين باعوا أنفسهم بثمن زهيد، مقابل امتيازات مادية، وفضلوا الوقوف مع فرنسا ضد الثورة الجزائرية، ومنهم حتى من رفع السلاح ضد الثوار الجزائريين، ومنهم من اكتفى بالمساعدة اللوجستية عن طريق الوشاية. لكن المسكوت عنه هو أن عددا كبيرا من هذه الفئة، مازال يعيش معنا في وطننا المفدى، ومنهم من يملك الأموال والعقارات، ومنهم من يحتل منصبا مهما في الدولة، ولكن من يعرفهم هم من عايشهم في تلك الفترة الاستعمارية، أو من ترك لهم أوليائهم الشهداء أو المجاهدين الذين توفوا، وثائقا تثبت ذلك. فكيف نسمح لهؤلاء ولا نسمح لأولئك في الضفة الأخرى من وراء البحر ؟؟؟ لقد كتبت موضوعا عن أولاد الحركى شهر مارس 2012، وذكرت أنه استنادا لكلام الله العزيز في العديد من الآيات، أن الابن لا يتحمل أخطاء وذنوب والديه، و انطلاقا من هذا القاعدة الشرعية قامت السلطات العمومية بمعاملة الإرهابيين الذي خانوا أبناء هذا الشعب ، وحملوا السلاح ضدنا لأكثر من عقد من الزمن وخربوا، ودمروا المنشآت والقرى والمصانع، ولم تسلم منهم حتى الحيوانات التي تفننوا في التنكيل بها بعد قتل أصحابها وكبدوا الجزائر خسائر بملايير الدولارات، ومئات الآلاف من الضحايا وعدد غير معروف من المعاقين والأرامل واليتامى، و من اللقطاء، والمغتصبات. وبالنظر إلى قوانين الرحمة والوئام والمصالحة، فكل من أعلن توبته وسلم نفسه، هو مرحب به في المجتمع كبقية الأفراد. وهنا يأتي التساؤل، ما هي درجات الأضرار التي خلفتها خيانة الحركى للثورة، وما هي درجات الأضرار التي خلفتها أفعال الإرهابيين ؟؟؟ لكن من هم هؤلاء الإرهابيين ؟ إذا كان تعريف الإرهاب لغة، هو ممارسة فعل زرع الذعر والخوف، والفزع، وقد يكون ذلك بأساليب عديدة ، فمنها عن طريق التهديد والوعيد، أو عن طريق القلم أي الكتابة، وقد تشمل فعل القتل. ولهذا ، فمن كانوا يقتلون ويدمرون لا يمكن أن نطلق عليهم تسمية الإرهابيين ، بل هم فئام من الوحوش البشرية ، التي تنتمي إلى البشر، ولكن الجانب الإنساني والعاطفي ميت لديها، وتتلذذ بالقتل والتدمير ولا تعرف الرحمة. وعليه ، فمن صنف القتلة في صنف الإرهابيين هو مخطئ ، لأن القتل أكبر من الإرهاب ، إذ أن هدم الكعبة أهون عند الله من ترويع نفس ، و أن هذا المصطلح لا يعنيهم بشكل مباشر، مثلما أصبحنا نسمع عن ترديد مصطلح التطرف العنيف ، حيث نظمت له المؤتمرات في الجزائر، وكأن التطرف غير العنيف مسموح به ؟؟ فالتطرف هو التطرف وله تعريف واحد ، ونفس المعنى باللغة الفرنسية أو الانجليزية . ومن خلال تعريف الإرهاب ، يتضح لدينا أن التصنيف كان خاطئا، ولذلك يجب التدقيق في المصطلحات. وإذا كانت السلطات قد غفرت للإرهابيين ومازالت لم توصد أبواب المغفرة، في انتظار مغفرة الله، والمتضررين منهم، فلماذا لا تغفر للحركى أو تعفو عنهم ؟؟؟ وهم من يريدون أن يُكفروا عن ذنوبهم، عن طريق استثمار أموالهم وعلاقاتهم مع أعلى السلطات في فرنسا، حيث أشار إليهم رئيس الوزراء أحمد أويحيى في وقت ليس بالبعيد ، ودعا إلى الاستعانة بهم في دعم الصادرات، والاستثمار بصفة عامة، لما لهم من نفوذ في دواليب السلطات الفرنسية. فالملاحظ أن الحركى قد اختاروا الخيانة والعمل في صف المستعمر كعملاء مأجورين، أما الإرهابيين فقد جمعوا ما بين من كانوا يسمونهم طغاة النظام ، وبقية أفراد الشعب وحتى حيواناتهم، وشرعوا في إبادتهم عن آخرهم. وطبعا القاسم المشترك بينهما ، هو أنهم جزائريون سواء الحركى أو الارهابيون، وليسوا غرباء عنا؟؟؟ وتخيلوا معي أن الشعب لم يتبن قوانين الرحمة، والوئام، والمصالحة ، فماذا كانت ستكون عليها أوضاعنا اليوم ؟حتما كانت ستسود الفوضى، و الذهاب إلى المصير المجهول . ومن هذا المنظور، أعتقد في رأيي المتواضع أن يُنظم استفتاء حول عودة الحركى، ولنترك القرار للشعب، فهو المعني بالدرجة الأولى، وبالتالي يرفع الحرج عن السلطات الصامتة حيال هذا الموضوع، الذي تربطه فرنسا بطبيعة التعاون الثنائي وخاصة في المجال الاقتصادي . أنا هنا لا أدلي برأي مساند للفئتين أو لأحدهما، لأنني تضررت منهما، إما عن طريق أسرتي أيام الاستدمار الغاشم، أو بصفة مباشرة، عندما كنت من المحكوم عليهم بالإعدام في فترة التسعينيات، ومازلت أحتفظ برسائل تهديد الجماعات المسلحة إلى اليوم ، وأترك الأمر إلى الله ، فهو صاحب الشأن، أي أنني متضرر من الفئتين كغيري من أبناء الوطن. فالشعب قد يغفر ويعفو ، لكن من حقه أن لا ينسى. وعليه، وحتى لا يفسر كلامي أنني أساند الحركى على حساب الإرهابيين، فالموضوع أطرحه للمناقشة، عسى أن أجد إجابات لتلك التساؤلات. من جهة أخرى، فإنه من غير المعقول أن تبقى الأمة الإسلامية المتخلفة، حبيسة الماضي، وتجتر فيه، مثلما هو الحال بين السنة والشيعة، فهاتين الطائفتين مازالتا تغذيان في العداوة والاختلاف الهدام، وتجتران في ماض ولى منذ 15 قرنا، وكأني بأحدهم يقول ويكرر يوميا : " أنا لن أسلم عليك ولن أتفق معك، ولن أتعاون من أجل التقدم، وعمل ما من شأنه أن يذهب بالأمة الإسلامية إلى الازدهار والرفاه، لأن أحد أجدادك قتل أحد أجدادي منذ 15 قرنا". فعلا إنه شيء مؤسف ومخجل، ومن العار أن يبقى بيننا هذا الحقد الدفين، ضاربين عرض الحائط ما نهانا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث كان مثالا للتسامح ولم الشمل، وتناسي الماضي، وهو من تم نعته بكل الصفات من طرف قومه، وتعرض للضرب و الاهانة حتى كسرت رباعية أسنانه، وأتهم بالسحر والدجل والزندقة، مما حتم عليه الهجرة إلى المدينة، وعندما فتح مكة، وقف أمامه من أساء إليه ، وقال: "ما تراني فاعل بكم ، فقالوا له أخ كريم ، وابن أخ كريم ، فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وعفا عنهم، ولم يقل لهم لقد قتلتم وفعلتم ما فعلتم من إساءة، وهذه قمة التسامح والحلم الذي جاء بهما الدين الحنيف. فنحن اليوم أمام مسلكين، إما أن نقتدي بنبينا الكريم، وإما أن نتصرف وفق الأهواء والعاطفة، ونبقى نعيش في الماضي، وبالتوازي نتجنب النظر إلى الأمم وهي تتقدم باستمرار، رغم اختلاف دياناتها ، ولغاتها ، وأصولها ، ورغم الحروب التي دارت بينها ، وهي اليوم متحدة وتعمل جنبا إلى جنب، وتشكل معادلة هامة في توجه الاقتصاد العالمي. ولو بقيت الدول الأوروبية تعاتب ألمانيا على ما فعلته بهم في الحربين العالميتين، لكان حالها أسوأ من الدول الإفريقية و الدول العربية المتخلفة. إنني على يقين، أنه سيأتي يوما جيل لا يهمه ما فعل الحركى ولا حتى المستعمر، وسوف يذعن لفرنسا المتربصة بالجزائر، حيث أنها مطمئنة لمصالحها، بسبب عملائها في الداخل وليس في الخارج. وكل من يحبها ويعشقها من مئات الآلاف الذين يبيتون في العراء مذلولين متسولين أمام مركز التأشيرة، أو المركز الثقافي الفرنسي لإجراء امتحان اللغة الفرنسية قصد الظفر بالدراسة، والحصول على منحة من مستعمر الأمس. وفي كل الحالات، فإن الشعب الجزائري اليوم، هو مخيّر بين أمرين، إما أن يبقى يجتر في الماضي ولا يغفر لا لهؤلاء ، ولا لأولئك، أو يطوي الصفحة معهما بما تحمله من مآسي، وينظر إلى المستقبل بعين ثاقبة غايته التقدم والمضي في فلك الدول المتطورة التي لا تعرف إلا العمل والسمو في العلاقات، وأن الأفضل هو من يخدم بلده بكل نزاهة وإخلاص، ويقدم إضافة للمجتمع.