"الحركى" .. ملعونون بالجزائر "مذلولون" بفرنسا من المصادفات أن يجمع شهر جويلية تاريخين لعيدين وطنيين لأمتين كانتا طرفا ثورة من أهم الثورات التي عرفها القرن ال 20، فمنذ أيام قليلة احتفلنا بذكرى الاستقلال 5 جويلية، وأيام قليلة فقط تفصلنا عن احتفال فرنسا بعيدها الوطني يوم 14 جويلية، ولكن شتان بين التاريخ الأول والثاني، فإذا كان الأول يسترجع ذكرى من ضحوا بالنفس والنفيس لتحقيق نعمة ينعم بها أكثر من 36 مليون جزائري، ويكرم من لا يزالون على قيد الحياة حافظي الذاكرة الوطنية، فالتاريخ الثاني يكرم هو الآخر على الضفة الأخرى من البحر المتوسط وعلى طريقته فئة خاصة يسميها بالمحاربين القدامى، تكريم لا يتجاوز حدود الأوسمة وقبعات خيالة الجيش الفرنسي القديم مرفقة بنظرات الاحتقار والذل والمهانة. الجوسسة والاغتصاب مهام الحركى الرئيسية يقال أن كلمة "الحركي" مشتقة من الحركة الوطنية الجزائرية التي أسسها مصالي الحاج والتي دخلت في صراع مع جبهة التحرير الوطني، ومنه عممت هذه الكلمة على كل شخص اختلف مع جبهة التحرير الوطني، وهي اليوم ترمز إلى معنى أكبر وأعظم جريمة يرتكبها الفرد ألا وهي خيانة الوطن، فالحركى هم الجزائريون الذين استعملتهم فرنسا من أجل قمع الثورة والتجسس على المجاهدين الجزائريين، ونقل أخبارهم ومنهم من كان مجندا في صفوف الجيش الفرنسي وشارك في الحرب العالمية، وبعد الاستقلال تضاربت الآراء حول مصيرهم، إذ تشير تقديرات تاريخية أن ما بين 30 دألف إلى 150 ألف حركي وعائلاتهم تمت تصفيتهم فيما تمكن حوالي 150ألف من الهروب إلى فرنسا والإقامة هناك –لكن هذه الأرقام لم يتم تأكيدها من طرف أي جهة- في حين تقدرهم السلطات الفرنسية بأكثر من 60 ألف جزائري، وأكد بعض المجاهدين ل"الأمة العربية" أن الحركى هم من مددوا عمر الثورة إلى سبع سنوات ونصف، ولولاهم ولولا خيانتهم لتمكن الثوار من إخراج المستعمر في مدة أقل، ولم يقتصر نشاط الحركى على نقل الأخبار والتجسس، بل كانوا يساهمون في اعتقال المجاهدين وتعذيبهم واغتصاب المجاهدات، وهو ما أكدته بعضهن من أمثال جميلة بوباشا، التي لاتزال تذكر أسماء الحركى الذين اغتصبوها والمجاهدة لويزة إيغيل أحريز، التي صرحت ل"الأمة العربية"، أن أكثر ما جرحها بعمق هو الحركي "حسن قندريش"، الذي باعها وباع أهلها للعدو قائلا لهم "حذار من هذه الشقراء إنها عضوة في إحدى المنظمات، وأنتم لستم منتبهين لها..."، لقد كان الحركى فرنسيون أكثر من الفرنسيين أنفسهم، حتى يثبتوا لهم بأنهم فرنسيين حقيقيين، وتضيف لويزة قائلة "قندريش هرب إلى فرنسا وكان يقيم في غرونوبل إلى أن توفي مؤخرا..." لقب "القايد" تشريف فرنسي ومهانة وطنية لسنا هنا بصدد محاكمتهم أو مساءلتهم لماذا خان أجدادكم أو آباؤكم الوطن، فنظرة الاحتقار التي ينظر بها المجتمع إليهم تعادل آلاف المحاكمات، أفراد بل عائلات بأكملها اليوم تعيش بيننا في عزلة،ذنبها الوحيد أن جدها فلاني حركي وكان عميلا لفرنسا، والجميع يعلم ذلك والمعلومة تتنقل بل تتوارث من جيل إلى آخر،والكل يوصي أبناءه حذار لا تقرب من فلان لأن جده حركي... أوضاعهم، حالتهم أردنا أن نتقصاها، كيف يعيشون في وطن باعه بالأمس القريب أسلافهم إلى فرنسا، نظرة المجتمع إليهم، ماذا يقول عنهم جيرانهم، وكل من يعرفهم؟ في يوم حار تجاوزت فيه درجة الحرارة 36 تنقلنا إلى منطقة بضواحي المتيجة،حيث تقطن عائلة معروف عنها، تعاون أفرادها إبان الثورة مع المستعمر، لم نجد صعوبة في البحث عن المكان، لأن العائلة أشهر من نار على علم، فبمجرد السؤال عنها أجابنا غالبية محدثينا "من.. عائلة القومية؟" في حين وصفها آخرون بعائلة الحركى واستهزأ آخرون قائلين "من دار القايد؟". أخبارهم، أوضاعهم وكل ما يتعلق بهم لم نجد أكثر من السيدة حورية التي تعرف تاريخهم جيدا لإيفادتنا به. تقول السيدة حورية (69سنة) "كان الإبن الأكبر لعائلة (ق.ع) خلال الثورة من أبرز المتواطئين مع الجيش الفرنسي، على حساب أبناء بلدته، الجميع يعرفه من جيل الثورة، وحتى من غير جيل الثورة، الذين سمعوا عن ممارساته المشينة، وبالرغم من أنه غادر المنطقة مع بزوغ فجر الاستقلال إلا أن عار فعلته ما يزال يطارد كل من يمت له بصلة خاصة أخواته وإخوته، فعائلته تعاني العزلة والإحساس برفض الأهالي لها، كما أن لا أحد يصاهرهم وحتى من يتزوج بناتهم من المناطق المجاورة يدخل على طمع لاتخاذهم جسرا للهجرة إلى فرنسا، والطريف في الأمر أن عائلة (ق.ع) لا يكفيها النعت اللاصق بها ليضاف إليه، نعت آخر إذ أصبحت نذير شؤم، على كل طامع في مصاهرتها، فزوجة أخ الحركي توفيت في فرنسا بعد معاناة طويلة مع مرض أصابها، عقب زواجها رغما عن أهلها الذين عارضوا زواج ابنتهم من رجل شقيقه كان عميلا لفرنسا، وزوجة الإبن الثالث طلقت بعد عام واحد من زواجها بسبب عدم احتمالها كلام الناس واحتقارهم ونظرتهم إلى عائلة زوجها، إضافة إلى مقاطعة نساء المنطقة لها. وتضيف السيدة حورية أن الخيانة مصل يجري في دم هذه العائلة، إذ أعاد التاريخ نفسه حيث انضم إبن أخت الحركي إلى الجماعات الإرهابية المسلحة أثناء العشرية السوداء، وألحق أضرارا كبيرة بأبناء منطقته، وهو اليوم يقيم بفرنسا رفقة أفراد من عائلته ممن اختاروا العيش هناك. سألنا السيدة حورية فيما إذا كان الحركي إبن العائلة الأكبر لا يزال على قيد الحياة، فأجابت قائلة "نعم، لايزال بفرنسا ولم يدخل الجزائر منذ 1962 أي منذ 47 سنة، وفي العام الماضي راجت أقوال تفيد بمجيئه رفقة أبنائه إلى المنطقة خلال الصيف، وهو ما رفضه الأهالي وتوعدوا بقتله إن وطأت قدماه تراب المدينة، التي تعتبر مرقدا للشهداء ونقلوا وعيدهم لأهله وهددوهم. متى تعترف فرنسا بعملائها؟ يحملون بطاقة محارب فرنسي منذ 1974، ينشطون في جمعيات مؤطرة يطلقون عليها إسم "جمعيات المحاربين القدامى"، يحيون ذكرى 19 مارس وقف إطلاق النار، أقيم لهم نصب تذكاري تكريما لمن ماتوا في سبيل فرنسا في الجزائر، 5ديسمبر من كل عام هو يوم رسمي لإحياء ذكراهم، تقلدوا أوسمة شرفية مقابل خدماتهم الجوسسية إبان الثورة، أسست لهم الحكومة الفرنسية كتابة دولة خاصة بشؤونهم، يتقاضون معاشات، و...و....كل هذا وأشياء أخرى لم تجعلهم في مصاف مواطنين فرنسيين من الدرجة الأولى، فهم يعانون من نظرة المهاجرين الجزائريين غير الحركى، الذين يعتبرونهم خونة أيضا،كما كان آباؤهم قبل الاستقلال، فبالرغم من كل ما قدموه لم تعترف فرنسا بعد بهم، لقد كانوا ورقة إنتخابية في لعبة الرئاسيات الفرنسية، حيث أتقن ساركوزي اللعبة ووظف "الحركى" توظيفا خدمه للفوز وولوج قصر "الإليزيه"، ووعدهم وقتها قائلا "إذا انتخبت فسأعترف رسميا بمسؤولية فرنسا عن الإهمال والمآسي، التي طالت آلاف الحركى" لكن شيئا من هذا لم يحدث إذ خابت آمال "المحاربين القدامى" –كما يعرفون في فرنسا- وخاب معهم أمل الجيل الثاني والثالث منهم، وإلى حد اليوم لم يف ساركوزي بوعده بل خيّب أملهم مرة ثانية، عندما صرح منذ عامين قائلا: "على فرنسا إصلاح الضرر الذي لحق بالحركى وأبنائهم وحقوقهم دين على فرنسا" ووعدهم بإعادة تقييم منح التقاعد خلال السنوات القادمة. هذه التصريحات التي أثارت غضب الحركى،الذين قالوا بأنهم لا يتسولون صدقة من فرنسا وتساءلوا لماذا لا ترد فرنسا جميل آبائهم الذين خدموها طيلة فترة وجودها بالجزائر، حتى أن لعنة "لوي جوكس" الوزير الأسبق المكلف بالشؤون الجزائرية في الخارجية الفرنسية، لا تزال تطاردهم، أين أصدر قرارا عام 1962 أمر فيه الضباط الفرنسيين بعدم اصطحاب الحركى معهم إلى فرنسا، كما أن شارل ديغول كان يرى فيهم عبئا على فرنسا وعليهم تحمل عواقب خيانة وطنهم وتفضيلهم فرنسا على الجزائر ورمى بهم في المحتشدات. ورغم المطالب والاعتصامات التي يطالب بها أبناء الحركى وأحفادهم وحتى الحركى أنفسهم باعتراف رسمي وعبر نص قانون من الدولة الفرنسية، إلا أن هذه الأخيرة لم تحرك ساكنا. ويروي أحد الطلبة الجزائريينبفرنسا حال الحركى الجزائريين العام الماضي يوم 14 جويلية،في عيد فرنسا الوطني، كيف يهرولون نحو الاحتفالات وهم حاملون على صدورهم أصنافا من الأوسمة مرتدين القبعات الصفراء، التي توزع مجانا وحديثهم الوحيد شكاوى، عن قلة المعاشات التي يتقاضونها، ويضيف الطالب أن أحد الحركى نزع الشريط الأسود الذي كان يلف القبعة الصفراء،ورماه قائلا "نزعت الشريط الأسود منها لأنها كانت تشبه قبعة اليهود"، فرد الطالب الجزائري في نفسه "ومن أكثر منكم تهودا أنتم يا من بعتم البلاد!!" هؤلاء الحركى بفعلتهم المخزية ظنوا أن خدمة المستعمر والتعاون معه شرف لهم لكنه في حقيقة الأمر مهانة ألصقت بهم وبكل من جاء وراءهم من أحفادهم وحتى أقاربهم، ولعل تجنب الناس لهم والاعتراض عنهم أكبر دليل على مدى الخزي الذي أقدم عليه أجدادهم وأن اللقب المشرف الذي منح لهم إبان الثورة "القايد" مهما علا شأنه إذا ما تعلق بخيانة الوطن، يبقى أرخص مما تدوس عليه أقدام الشرفاء أحفاد المجاهدين والشهداء.