اكمالية بن عياد سابقا هاهي تقف شامخة في أعلى التلة الشاهقة هناك، تراها فتحسبها قد فرّتْ إليك من إحدى الأساطير المخيفة، أو القصص الليليّة المرعبة. قلعة حجريّة قديمة، كانت ثكنة عسكريّة، وكذا حصن مراقبة، بناها الفرنسيّون لإحكام السَّيطرة على المكان، ثم حُوِّلت إبّان الاستقلال إلى متوسّطة أخذت اسم أحد شهداء المنطقة "ابن عيّاد". "ابن عياد" بموقعها بجدرانها الحجريّة، بل بحقيقتها وحكاياتها، لم أكن أعرف منها إلا الواجهة الأماميّة، والمنظر الداخليّ المُبهر، فبوابتها الكبيرة تقابلني وأنا لا أزال في المنخفض، حيث أبدأ في الصّعود. كان ذلك الصّعود يرهقني حقا، فدوما أصله بعد إعياء الطريق الطويل الشّاق، الذي أبدأه من ثانوية بلكحل سيرًا متسارعا على الأقدام. أجل متسارعا، فأنا غريبة بالمدينة وأخشى سفهاءَها، لذلك كنتُ أقطع المسافة بسرعة تكاد تتقطع لها نياط قلبي، ولو عاد الزّمن لما فعلتها الآن. هو كذلك الصِّغر، كثيرا ما يورّطنا في بعض الحماقات. قلت: كنتُ في البدء لا أعرف إلا الواجهة الأماميّة، والمنظر الداخلي ل ابن عيّاد، حيث النّظافة والنِّظام، والشّجر الباسق، والورود بشتّى الأشكال والألوان، يسهر عليها أحد العمال، فتراه يقلِّم الشّجر، وينحي الورق المتساقط، ويرشّ ويسقي كل صباح، لتفوح روائح الاخضرار المنعِشة العطِرة. * * * ابن عيّاد كانت رحلتي الأولى إلى العالم الخارجي، وبداية غربتي عن أهلي وفراقي لقريتي، عشتُ بها سنة كانت من أطول السّنين في عمري، حسبتُها أعواما، وتعلّمتُ منها وفيها ما لم يعلمني إيّاه الزّمن، في سواها وخارج أسوارها. * * * سافرتُ مع والدي في الصّباح الباكر، لنصل ثانوية بلحرش السّعيد ونبدأ التّسجيلات الأوّليّة، جلسنا قرب نافورة الماء، التي طالما ذكرتنيه، كلما مررْتُ جوارها بعد ذلك الحدث بعشرات السّنين. وبعد التّسجيل، انتقلنا إلى متوسّطة ابن عياد، وبإجراءات بسيطة استلمتُ حقائبي مودِّعة إيّاه إلى أجل أردتُه قريبا، وأراده الله غير ذلك، إذ أن المرض ألمّ بالوالدِ العزيز، فافتقدت زياراته لي. كان الطريق المتعرّج من الجلفة باتجاه قريتي ازنينة، مصدرَ إلهامي ومنبعَ سلواي، وكدتُ أحفظ كل شجرة وحجرة نبتتْ أو زُرعَتْ فيه، لكثرة ما عبرتُه. هو طريق صحراوي، تتخلله بعضُ المساحات الخضراء بين الفينة والأخرى، هذا هو الطريق المعتاد، وهناك طريق جبليّ آخر، عبر مدينة الشارف إلى تاقرسان ثم الجلفة. * * * هنا في ابن عيّاد ندخل قاعات المراجعة كل مساء، من حوالي السّادسة والنّصف وحتى التّاسعة والنّصف، الأفواجُ الثلاث قُسمتْ حسب ترتيب السّنوات الدّراسيّة، فالسّنة الأولى ثانوي فوج، والثانية ثانوي فوج، والثالثة ثانوي فوج. مراقبة الفوج هي من تقوم بحراسة الطالبات أثناء المراجعة، وتتخلل فترةَ المراجعة هاته وجبةُ العَشاء، لنأخذ بعدها ربع ساعة تقريبا استراحة، نتمشّى في السّاحة الكبيرة جيئة وذهابا، ثم نصطف مسرعات ونؤوب إلى قاعاتنا، على أن نتوجه إلى المراقد في حدود التّاسعة والنِّصف ليلا. المراقدُ الثلاث آهلة بالطالبات، من مختلف أصقاع ولاية الجلفة الشّاسعة، من ازنينة جنوب غرب الولاية إلى القديد فالشارف، ومن البيرين شمال شرق الولاية مرورا بعين وسارة وحدّ الصّحاري وبحبح، وشرقا من دار الشيوخ إلى مسعد جنوبا. إنّه كوكتيل ولا أروع لمجتمع جلفي مصغّر. * * * "مصدق" المراقب العام لداخلية ابن عيّاد، رجلٌ طيّب كريم النّفس، إلا أن غضبته شديدة قاسيّة، وكلّ الفتيات يتحاشينها. حدّة صوته ممزوجة بشراسة على الدّوام، فهو يتعامل مع طالبات في الثانوي، قلّما يستجبْن للنّصح والتّوجيه، لذلك فالصّراخ والتّوبيخ دَيْدنه. وعلى السّاعة السّابعة صباحا، وكذا الواحدة بعد الزّوال، حين تقف الحافلة عند بوابة ابن عيّاد، ونسارع لنصطف قبالتها، تجد الكثيرات منّا قد تأخرن، وهذا ما يخرج مصدق عن طوره، فتراه يدور حول نفسه من غير هدف، وتسمعه ينادي بصوتٍ عال: * الحافلة تصرخ وتصيح! * وأنا أصرخ وأصيح! * وفريحة تصرخ وتصيح! فأيْنَكُنَّ.. ؟ أيْنَكُنَّ..؟ واعجبي! أما حين يخترق الصّفوف، فالاعتدالُ يصبح واجبا، هو رجلٌ لا يرحم، وليس من الحِكمة مواجهته. * * * من عاداتنا في ابن عيّاد بعد أن نتعشّى أن نُترَك في السّاحة لدقائق، نتمشى جيئة وذهابا، أو كما يقال عندنا: "تعشّى وتمشّى" وهذه السّاحة حين يغيب عنها مصدق، تصير ميدانا للهرج، فتتبارى الفتيات في الانتقام منه، وذلك بتعليقاتهن السّاخرة من شراسته، خاصة حينما تشتد غضبته. مصدق ربعة من طول، مع بعض الامتلاء، واسع الخطو، هوايتُه أن يمشي متبخترا بين الصّفوف، غالبا ما يلبس في الدّوام ليلا، جلبابا بنيّ اللّون ( قشابية ذيابي)، وهذا الجلباب الرِّجالي تلبسه أحيانا بعض الفتيات أيضا، إذ لا حرج آنئذ من ذلك. وهكذا وقعتْ خضرة في المصيدة، ظنته غائبا وهاهي تكرِّر كلماته.. إضحاكا للبنات، لينقض عليها فجأة، لقد افترسها افتراسا، وما من منقذ لها. كسر كبرياءها، وبقيتْ حزينة لأيام. * * * تقف الحافلة عند بوابة ابن عياد، نصطف قبالتها، ليؤذن لنا بالخروج، فنهرع مسرعات، تتلقفنا المقاعد، منّا من تجلس ومنّا من تبقى واقفة، لأن الأماكن قد حُجِزتْ عن آخرها، بل هناك من يفضلن الوقوف في المَمَرّ، ليبدأن احتفالية من نوع جديد. إنّه البثّ الحيّ المباشر من حافلة ابن عيّاد، وتقوم بتنشيطه عبدة. ها هي عبدة تُحدِّثُ عن ابن عيّاد وعن فتياته، والطريف في ذلك كله، حين تتجاوز الحافلة مفترق الطرق رويني، باتجاه ثانوية بلكحل حيث تعبُر الجسرَ المارّ فوق وادي ملاّح، هذا الوادي الذي يخترق مدينة الجلفة، ويلتفّ حولها في بعضِ الجهات. تمدحُ عبدة وادي ملاّح وتتغنّى به، مستشهدة بأبيات محمد العيد آل خليفة، في مدحه سيرتا وواديها: وادي الهوى بالهوى نشوان خاصَرها.... فخاصرتْه كأنّ الأمرَ مقصودُ وهي في ذلك كلِّه، لا تنسى الاعتذار لمشاهديها، في حال ما نفذت إلى أنوفهم -لا قدّر الله- بعضُ الرّوائح، التي قد لا تكون زكيّة البتَّة، وفي هذا الشّطر منه بالذّات، لانصباب المجاري فيه، ويبقى الاعتذار واجبا على كل حال. لكن عبدة لم تكن تعرف الجلفة آنئذ، ولم تر البساتين المتراميّة على أطراف وادي ملاّح، في كل من روس لعيون ولونانقة والزيْنة، ولعلها سكنت الجلفة وعرفتْ ذلك بعد حين. عبْدة فتاة بها حيويّة ونشاط، وخفّة زائدة عن اللزوم أحيانا، متوسّطة القامة، مكتنزة بعض الشيء، لها عيون كحيلة، وابتسامة عريضة، تنفرج عن أسنان بيضاء كحبّات برد. لطالما سُئِلتْ باستغراب من قبل الكثيرين: * عبدة!؟ وما عبدة!؟ لتجيب بأبيات بشار بن برد: يزهِّدني في حبِّ عبدة معشر.... قلوبُهم فيها مخالفة قلبي فقلتُ دعوا قلبي ما اختار وارتضى.... فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللبِّ وما تبصر العينان في موضع الهوى.... وما تسمع الأذنان إلا من القلب. عبدة تفحِم السّائل، وتتحدّى من يظن أن اسمَها دليلُ عبودية أو وضاعة، كلاّ! فهي تفخرُ به، وترى نفسها سليلة عبدة بشار بن برد، ومالكة القلوب في تدلُّهٍ وجمال. * * * وأكثر شيء نشتاقه في ابن عيّاد هو الدفء العائلي، وشتّان بين أحضان الجدران هنا، وأحضان العائلة هناك. وفي لياليك الباردة يا ابن عيّاد، نحِنّ إلى المواقد، وجلساتِنا الأسريّة حولها، نشاكس هذه ونضاحك ذاك، بالعكس من الجلوس في قاعات المراجعة على كراسي خشبيّة، تزيد المشاعر تيبّسا والأحاسيس تبلّدا. ويكفي هنا أن يطلّ أحد المارّة برأسه، من شباكِ إحدى النّوافذ، لينشر الرُّعب بين الطالباتِ، فيفزعن مهرولات نحو السّاحة، يكثر الهرجُ والصّراخُ، وما هي إلاّ هنيّة، يتجمّعن بعدها في حلق، ولكل قصّتها وكيف ترويها. لتزداد حراجة موقف مراقبة الفوج في إعادتهنّ إلى القسمِ، وإلى أجواء السّكون التي كنّ عليها. أما في المراقد، فبعد أن نتوزّع في الأَسِرَّة، وتأخذ كل منّا مكانها، نتدثّر بأغطيّة تفتقر إلى دفء الأغطيّة التي ألفناها في بيوتنا، تلك المصنوعة من الصّوف الخالص، والتي تجعلك تنام رغما عنك، ف (الحنبل أو الكسا) بثقله يسحبك إلى عوالم الأحلام اللذيذة، لتغوص في بحار نوم هادئ عميق. ولأنّ هذه الأغطية لا تدفئ، فأنا أغفو أوّل اللّيل، وسرعان ما أفيق، فأعاني الخوف والتّوجّس. وتستيقظ الخالْديّة كعادتها ليْلا، وتنادي على مراقِبة الفوْج بصوت خافت: * - فريحة.. فريحة.. أنا خائفة! يتكرّرُ نداؤها عدّة مرّات، تسكتُ بينهنّ برهة من الزّمن، ليشتدّ بها الفزعُ، وترفع صوتَها قليلا: * - فريحة، أجيبيني، أنا خائفة والله، يا بنات، هل فيكنّ من تسمعني؟ يخنقها البكاء، ويتحشْرَج صوتُها، وتجيبها فريحة قائلة: * - الخالديّة نامي، ليس هناك ما يخيف، عودي إلى النّوم رجاءً. وهنا تسمع تمْتمَات تحت الأغطيّة، وهمسات ضاحكة، لتنفلت الخالديّة من عقالِها، وتصرخ باكيّة وبأعلى صوت: * - أفٍّ لكنّ جميعا، يا وسِخات، لِمَ لمْ تجبْنني؟ أعرف أنّكنّ مستيقظات! وتخرج فريحة من هدوئها وتنادي: * - الخالديّة نامي، وكفي عن إيذاء غيرك. * - سكوت.. سكوت.. كل البنات ينمْن، لا أريد سماعَ مزيد من الأصواتِ. * * * أيها السّادر في المعنى، ما الذي جمّلك! ما الذي أسكنك الجوارحَ! وعطَّر بأريجِك المشاعرَ والأحداق، أ دلالُك أم جمالُك، أم ليلُ أنس بك صفا وصحا، ورقَّ لجلاسِك! "خضرة" مطربة ابن عياد وبلا منازع، صوتُها الشَّجي يترنّم بأجمل القصائد التي قيلتْ في الوجدِ والأشواق. كنت أستمتع بالإنصات إليها، فهي تنفذ بي إلى الحلال، وأُردّد مُستسْلمَة: يا لها من قمم كنّا بها.... نتلاقى وبسرّينا نبوح نستشفّ الغيب من أبراجها.... ونرى النّاس ظلالا في السّفوح لِيَرق الصّوت ويخفت، وتخالجني الخطرات، أتنسّمُ جميلَ المعاني: يا لمنفيين ضلّا في الوعور.... دميا بالشّوك فيها والصّخور كلما تقسو الليالي عرفا....روعة الآلام في المنفى الطّهور يقبسان النّورَ من روحيهما.... كلما قد ظنّت الدّنيا بِنُور لكن الصّوت يعلو فجأة، وتقوى نبرتُه، وتصدحُ خضرة في كبرياء: آه من قيدِك أدمى مِعصَمي.... لِمَ أُبقيه ولمْ يُبقِ عليْ ما احتفاظي بعهودٍ لم تصُنها....وإلامَ الأسرُ والدّنيا لديْ تمتزج الآه بالزّفرات، ويرقى الذوقُ العربي الأصيل...! فما هنا إلا الصّوت النّدي، والبسْمة الفارهة، والوجه المفعم بالتفاؤل والدّلال. إنها خضرة..! وما أدراك ما خضرة.. !