التاريخ يُكتب من مصادر وثائقية أو روايات شفوية ويُستشهد عليه بالآثار المادية التي تشير الى المكان والزمان ... ومن هذا المنطلق كانت رحلتنا الراجلة بتراب بلديات المجبارة ودلدول ومسعد لنضع قيد التحقيق والاستقصاء تحديد موقع قبر ضابط العتاد الفرنسي "دوبوا ڨيلبير De Bois Guilbert" الذي قتله مقاومو أولاد أم الاخوة في انتفاضتهم الشهيرة في أكتوبر 1854. وللعلم فإنه قد تم اطلاق اسم ڨيلبير من طرف الكولون على الشارع الرئيسي لمدينة الجلفة ليتم تغييره بعد دحر الاحتلال حيث صار يُعرف بعد الاستقلال باسم "نهج الأمير عبد القادر" ويتوسّطه تمثال للأمير على صهوة حصانه رمزا للجولات والمعارك الشهيرة التي شهدها الأمير مع فرسان بلاد أولاد نايل خلال الفترة 1836- 1847 ... وقد اعتمدنا في رسم خط سيرنا على رواية شفوية تشير الى وجود مكان مقتل "ڨيلبير" في منطقة مڨسم ختالة، جنوب شرق مدينة المجبارة. كما وجدنا مصدرا مكتوبا للمترجم العسكري الفرنسي أنطوان آرنو في المجلة الافريقية سنة 1862 أي أن آرنو قد جمع شهادات حية، بعد 08 سنوات من الموقعة، من أفواه من شهدوا معركة عين الناقة ولعله اطلع أيضا على تقارير مكتب العرب بالجلفة، مما يجعل من آرنو مصدرا أكثر موثوقية من تقرير الحاكم العام بيليسيي. لماذا هاجم أولاد أم الاخوة قافلة دورنانو؟ يكتسي هذا السؤال شرعيته من منظور أن الجيش الفرنسي كان في أوج غطرسته وأن السلطة الفرنسية قد قمعت قبائل بلاد أولاد نايل في حملات سابقة خلال فترة الخمسينات. والحقيقة أنه من الضيم أن نقول أن أولاد نايل قد ثاروا في الخمسينات مع شريف ورقلة محمد بن عبد الله لأن هذا الأخير عندما ثار قد وجد كل قبائل بلاد أولاد نايل ثائرة قبله سواء مع الحاج موسى الدرقاوي منذ سنة 1831 أو مع الأمير عبد القادر منذ مبايعته سنة 1836. ولا أدلّ على ذلك من أن محمد بن عبد الله قد اتحد مع شيخ مجاهدي الصحراء "التلي بلكحل" الذي انخرط في مقاومة فرنسا الى غاية استشهاده غرقا سنة 1854. وهكذا ومن خلال هذا العرض سنصل بالضرورة الى أن أولاد أم الاخوة هم بدورهم أيضا كان لهم سابق انخراط في المقاومة الشعبية بدليل أن الأمير عبد القادر قد عيّن منهم الحاج امحمد، من فرقة الشنان، على رأس أولاد عيسى تحت قيادة الشيخ عبد السلام بن القندوز ثم الخليفة سي الشريف بلحرش. وقد حلّ الأمير ببوكحيل، معقل أولاد أم الاخوة، في مناسبتين: الأولى اثر جولة المبايعة سنة 1837 والثانية بداية سنة 1846 أثناء حرب الكر والفرّ ضد جحافل القوات الفرنسية بقيادة الجنرال السفاح يوسف ... هذا الأخير صار متخصصا في قمع أولاد نايل بدليل حملاته الدموية سنوات 1846 و1847 و1852 و1864 ... قرر الاحتلال الفرنسي أن يجعل لنفسه موطئ قدم ببلاد أولاد نايل لإخضاعها فتم تأسيس البرج العسكري بعين الحمام (جنوب حد السحاري) سنة 1849 من طرف الجنرال لادميرو، ثم البرج العسكري بالجلفة في سبتمبر 1852 من طرف الجنرال يوسف ثم مرتع القوافل في "قلتة السطل" سنة 1853 وغيرها. وفي سياق مواصلة حملاته العسكرية ضد قبائل أولاد نايل، تحرك الجنرال يوسف نحو واد جدي ومسعد في أكتوبر 1852 أين تم قمع أولاد لعور ثم قمع أولاد طعبة في نفس الشهر أثناء عودته الى الأغواط. وبعد ذلك تم قمع قصر الأغواط الذي تواجد فيه مقاومو أولاد نايل بقيادة التلي بلكحل الى جانب اخوانهم من الأغواط وتقرت وورقلة بقيادة الناصر بن شهرة ومحمد بن عبد الله، وقد أحصت صحيفة "المبشر" استشهاد 19 قائدا من أولاد نايل في الحملة الوحشية على الأغواط يوم الرابع "04" من ديسمبر 1852 ... وهكذا سيواصل الفرنسيون حملاتهم الدموية ضد قبيلة أولاد طعبة التي سطرت ملحمة مجيدة في معركة يوم ال 12 ديسمبر 1852 ضد النقيب "بان Pein". هذا الأخير واصل طريقه لقمع قبيلتين من أولاد نايل وهما "أولاد سيدي زيان" و"أولاد أم الاخوة" لينال اثر ذلك ترقية الى رتبة عقيد قائد فيلق. كما تم أيضا معاقبة قبائل بلاد أولاد نايل شمال الجلفة لأنهم ساهموا بالفرسان وبمؤونة مطاميرهم في معركة الأغواط . فتمّ فرض غرامات ثقيلة على كل من أولاد سي أحمد وعبازيز قصر الشارف وأولاد سيدي يونس وزنينة وأولاد سيدي عيسى الأحدب وأولاد عمران (فرقة من أولاد الغويني) وزكار. وهكذا سنصل الى خلاصة مهمة وهي أن أي تحرك للقوات الفرنسية سيكون لهدف واحد وهو قمع قبيلة أولاد أم الاخوة التي تنتشر مضاربها على الجهة الجنوب - شرقية لربوع أولاد نايل وهو محور مهم باعتباره الطريق المؤدية الى بلاد الزيبان ومنها نحو بلاد الجريد بتونس ... وهي المضارب التي لم تتوغل فيها بعد القوات الفرنسية بما يكفي لفرض سيطرة الفرنسيين. ونتيجة للتقارير التي كان يتم جمعها بمكتب العرب بالجلفة عن المنطقة ودعوات الجهاد الواردة الى مختلف قبائل أولاد نايل فقد تم توقيف 50 فردا من قبيلة أولاد أم الاخوة ثم تلى ذلك قرار بتشكيل فصيل عسكري من الأهالي لمراقبة المنطقة. ومن أجل تدريب هذا الفصيل تم وضع خطة تدريبية بالخروج نحو واد جدي بقيادة الملازم كولونا دورنانو في أكتوبر 1854 ... ونحن اذ نضع هذا السرد فهذا لكي نصل الى استنتاج مؤداه أن أولاد أم الاخوة قد تفطنوا الى الهدف من هذه المخططات. فتأمين طريق الجلفة – مسعد مرورا بالمجبارة معناه تسيير حملات نحو الويصال وبوكحيل والمحاقن وعمورة وعبد المجيد وجرّ وادي جدي ... وقد جاءت قافلة دورنانو العسكرية ضمن دورية عادية تكاد تكون هي أولى الدلائل على محاولات تأمين الطريق واعطاء الانطباع عن النفوذ الفرنسي جنوب بلاد أولاد نايل. المرحلة الأولى ... البحث عن ساحة المعركة نبدأ الآن بالرواية الشفوية التي تتحدث عن مكان مقتل " ڨيلبير" في منطقة "مڨسم ختالة" التابعة اداريا لبلدية المجبارة. ولتحقيق الغرض من مهمتنا اخترنا يوم العطلة الأسبوعية لانطلاقتنا من مدينة الجلفة عبر سيارة نقل جماعي نحو مسعد ... طبعا دون أن ننسى سؤال السائق ان كان سيذهب الى مسعد عبر الطريق الوطني رقم 01 أو عبر المجبارة على الطريق الولائي رقم 108 والذي خططنا أن يكون فيه مكان نزولنا ما بين قرية عين الناقة وبلدية مسعد على بعد 15 كيلومتر عن هذه الأخيرة وبالضبط عند الهضبة المسماة "السطح" شرق منطقة "عطف الغراب". ان هذا الفضاء يتميز بكثرة محطات النقوش والرسوم الحجرية التي بقيت محافظة على شكلها لآلاف السنوات بل حتى في أوج المقاومة الشعبية وللأسف لم يعُد الأمر كذلك في أيامنا هذه ... كما قررنا توسيع مجال البحث عمدا من أجل يكون المسح شاملا للمنطقة التي وقع فيها الهجوم على القافلة الفرنسية يوم 12 أكتوبر 1854. وكانت خطة المسار هي الانطلاق من منطقة الويصال مرورا بمڨسم ختالة وواد الملاڨة لنلج مسعد من مدخلها الغربي. وهكذا بدأت رحلتنا العلمية باتجاه ما يعرف قديما بمنطقة القصور لأن جنوب بلاد أولاد نايل معروف بانتشار القبائل العربية المستقرة في قصور مسعد ودمّد والحنية والنثيلة وعمورة والمجبارة وعين السلطان بينما يعيش الجزء الأكبر من السكان على الانتجاع والتنقل بين المراعي. وتتقاسم النفوذ في الجنوب بطون قبيلة أولاد عيسى وأولاد سعد بن سالم وأولاد يحيى بن سالم على خط التماس مع بعض القبائل العربية الهلالية والادريسية كالأرباع ورحمان والحرازلية والمخاليف وغيرهم. وهذه كلها قبائل يجمعها مع أولاد نايل الجوار والمصاهرة والتجارة والأصل المشترك والدين واللغة الواحدة ونفس التراث الشعبي. ولكي نفهم المسار الذي اخترناه لابد من تقديم عرض تاريخي عن انتفاضة أولاد أم الاخوة التي شكلت ضربة قاصمة لقوات الاحتلال الفرنسي في أوج غطرستها وقوتها. وهذا بدليل التناول الاعلامي الكبير لها في الصحف الفرنسية الصادرة شهري أكتوبر ونوفمبر مثل "لومونيتور" و"المبشر" وغيرها. ففي يوم الثلاثاء الموافق للعاشر (10) من شهر أكتوبر سنة 1854 خرجت حملة عسكرية فرنسية من الجلفة يقودها الضابط "كولونا دورنانو" في مهمة لتدريب تشكيل عسكري على الحياة في الصحراء بغرض بسط النفوذ الفرنسي جنوب بلاد أولاد نايل. والمعروف أن المسار المناسب من البرج العسكري بالجلفة باتجاه الجنوب لن يكون سوى بالمرور عبر جبل صبع مقران فالعليليڨة ثم قصر المجبارة ثم الخناشيش ثم خنڨ الدفلة ثم العراعر ثم عين الناڨة ثم ضاية زيانة ثم مڨسم ختالة. وتقع جل هذه المناطق في الرواق الشاسع المواجه لخط جبل بوكحيل والمعروف باسم "الويصال" وهي تسمية عربية مشتقة من الفعل "وصل" كونها تصل بين بساتين مسعد جنوبا وسهول المعلبة شمالا. وتشتهر هذه المنطقة بكونها شبه صحراوية وتتميز بالتقاء مراعي الحلفاء والرمث. أما مياه وديانها فتتجه كلهاجنوبا لتصب في واد جدي وهذا الأخير تضيع كل مياهه، للأسف، هباء في الرمال أو نحو شط ملغيغ دون أن يتم حجزها أو تحويل جزء منها لأغراض زراعية. في هذه المناطق تتواجد مراعي لفروع من أولاد نايل مثل فروع أولاد عيسى وأولاد طعبة مما يحيل على أن هذه القبائل كان لها يد في الهجوم على القافلة الفرنسية رغم علمهم بخطر الانتقام الفرنسي في قادم الأيام. ولكن نجاح هجوم فرسان أولاد أم الاخوة يؤيد فرضية انعدام أي وشاية ضد أي تحركات مشبوهة أو كمائن منصوبة للعدو الفرنسي. ويعضد هذا القول أن حاكم الجزائر بالنيابة، الجنرال بيليسيي، يذكر في تقريره أن كولونا دورنانو قد اعتقد للوهلة الأولى أن الفرسان الذين هاجموه انما هم مستقبلوه المبعوثون من طرف القايد للاحتفاء بمَقْدم القافلة على اثر أخبار انتصارات الجيش الفرنسي في شبه جزيرة القرم. فلم يجد دورنانو من يُنبهه الى حقيقة أولئك الفرسان سوى البارود الموجّه ضدّه وأن الأمر لا يتعلق بحفل "فانطازيا" كما صوّر له شيطان غروره ... والحقيقة أن السير في هذا الفضاء المفتوح ما بين "عين الناقة" و"مسعد" على يمين الطريق الولائي رقم 108 يجعلنا نوقن بأننا نسير في وسط ساحة المعركة ما بين أولاد أم الاخوة وجنود دورنانو. فالقافلة الفرنسية كانت قد خيّمت ليلة الثاني عشر من أكتوبر في "عين الناقة" التي تقع على منتصف الطريق بمسافة 20 كم عن مسعد. وفي صبيحة يوم الخميس واصلت القافلة طريقها للمبيت في مسعد لتتعرض للهجوم من الخلف حيث كان يسير دوبوا ڨيلبير رفقة بعض الصبايحية و60 من فرسان القبائل فتمّت مباغتته ووقع قتيلا أمام مشاة وفرسان أولاد أم الاخوة الذين يتراوح عددهم ما بين 200 الى 300 ... وهنا سنطرح سؤالا لماذا اكتفى أولاد أم الاخوة بقتل دوبوا ڨيلبير ومعه الصبائحي "بشر" ولم يوغلوا في قتل المجندين من الأهالي؟ والجواب إما أنه قد كان هناك تواطؤ من المُجنّدين أو أن أولاد أم الاخوة قد أيقنوا أن أولئك المجندين هم اخوانهم الذين لا حول لهم ولا قوة وأنه قد جرى تجنيدهم عنوة ... وفي الحقيقة فإن تقارير الضباط العسكريين الفرنسيين تؤكد حقيقة التضامن الذي وقع بين أولاد أم الاخوة وجميع الفرسان الذين اعتقد دورنانو أنه يمكن الاعتماد عليهم لمحاربة أبناء عمومتهم. بعد أن علم دورنانو بما وقع لقافلة العتاد خلفه رجع مع فرسان المخزن وفرقته من رماة الأهالي ودارت معركة بينه وبين أولاد أم الاخوة. ورغم ضراوة المعركة وقوة تسليح الفرنسيين الا أن فرس دورنانو قد قتلت تحته ونفس الأمر للملازم غاليرون لينجوا بنفسيهما مع فرسانهما ويتجها نحو مسعد لأن أولاد أم الاخوة استطاعوا التحصن بالصخور أثناء معركة الكر والفر. وهكذا انتهى الجزء الأول من انتفاضة أولاد أم الاخوة في يوم الخميس 12 أكتوبر 1854 باستشهاد أكثر من 20 منهم بينما قتل من الفرنسيين 03 رماة وجرح 07 صبائحيين و02 من المخازنية. وقد قتل، كما أسلفنا، الضابط دوبوا ڨيلبير وهو ليس برتبة ماريشال لأن عبارة "Maréchal des logis" هي مصطلح فرنسي شائع للدلالة على منصب مسؤول العتاد وليس رتبة عسكرية. ومثال ذلك منصب مسؤول الخيل "Maréchal ferrant" ومسؤول التخييم "Maréchal de camp". وبلجوء دورنانو الى مسعد سيبدأ الجزء الثاني من حملة مطاردة أولاد أم الاخوة وقمعهم حيث تم استدعاء 06 حملات عسكرية من الأغواط وبوسعادة والجلفة والمدية، وهذا موضوع سنعود اليه بتفاصيل ميدانية في بحث منفصل لأن مهمتنا محصورة في اليومين الأولين لانتفاضة أولاد أم الاخوة ... ولأنه قد نال منا التعب بعد مسح منهجي لمساحة شاسعة فقد قررنا أن ننصب لنا مستراحا ونجمع بعض الحطب ليُحضرّ لنا عضو المجموعة محمد جاب الله قهوة نايلية في عمق الويصال ... المرحلة الثانية ... مقسم ختالة واصلنا خط سيرنا بعد أن مسحنا عين الناقة وعطف الغراب وزيّانة دون أن نعثر على شيء ذي أهمية ما عدا مقبرة عند الضفة الغربية لواد الملاقة. حيث تبدو من الوهلة الأولى مقبرة قديمة وتضم من 20 الى 30 قبرا تم دفنها بنفس الطريقة. وهذا يتطابق الى حد ما مع روايتي الجنرال بيليسيي والمترجم العسكري آرنو حيث يقول الأول أنه قد استشهد أكثر من 20 مقاوما من أولاد أم الاخوة بينما يرى آرنو بأن العدد هو 15 شهيدا. ولهذا نعتقد أن هذه المقبرة قد تضم رفاة شهداء مقاومي أولاد أم الاخوة ويبقى الأمر محلّ تحرّيات من أجل الحقيقة التاريخية ... وستكون الشهادات الشفوية من أهل المنطقة هي الفيصل في التعريف بهذه المقبرة القديمة. أثناء قطعنا لواد الملاقة قمنا بمعاينة بعض نباتات ضفة هذا الوادي. فهي نباتات سهبية بامتياز تعاني من الاستنزاف وتدهور في غطائها من حيث الكثافة والتنوع نتيجة الرعي الجائر. ومن شأن الحفاظ على هذا الغطاء الاستبسي أن يشكل موردا ومخزونا للرعي العقلاني والصناعات الصيدلانية والطب الشعبي وهي مجالات تحتاج بحثا وتثمينا ... التقينا شيخا يرعى أغنامه بمعية صبيّ لعله حفيده ،وغير بعيد يحرس الأغنام كلب من فصيلة راعي الأطلس وهي سلالة مهددة بالزوال نتيجة التهجين المستمر وتراجع سكان البدو الذين لطالما حافظوا على هذه السلالة. كانت لنا دردشة شبه مطولة مع الشيخ حيث ناقشنا معه مواضيع تاريخية وتراثية وأخبرنا بأنه لا يوجد قبر معروف لقتيل فرنسي بهذه المنطقة. وهو ما يحيل على أن عملية نقل جثمان دوبوا ڨيلبير الى مكان آخر قد تمت بسرعة ولهذا لم يكتسب المكان أي سمعة مرتبطة بدفن جندي فرنسي. وخلال حديثنا مع الشيخ عن مقاومة أولاد أم الاخوة حدثنا عن بساطة الأسلحة لدى العرب آنذاك وقدم لنا وصفا للرصاصة والبندقية حيث استعمل مصطلح "الوُشكة" وهي قرطاس صغير للبارود كان يُعد في قطع صغيرة من الورق وفقا لميزان محدد للطلقة الواحدة. وعلى الأرجح فإن مُستوقَفنا بالملاقة قد شهد مرور قافلة دورنانو وهي تحمل القتلى والجرحى باتجاه مسعد ... كما شهد من قبل مرور الأمير عبد القادر في جولة المبايعة الكبرى عام 1837 بدعم من فرسان أولاد نايل الذين يقودهم سي الشريف بلحرش نيابة عن الشيخ سي عبد السلام بن القندوز. وهكذا قررنا أن جولتنا الراجلة في بوادي المجبارة ودلدول ومسعد لتعقب مسار قافلة دورنانو قد انتهت. وأن قصر مسعد سيكون هو وجهتنا النهائية بغية معاينة المقابر التاريخية للمدينة وجمع أكبر قدر من الروايات الشفوية من أهل المدينة ... اليوم الثالث ... قبر دوبوا ڨيلبير عند نزولنا مسعد اتصلنا بواحد من شبابها الباحثين والناشطين في المجال التاريخي ألا وهو الدكتور اسماعيل زيان. حيث أخبرناه بمهمتنا ومآلها والحاجة لمعاينة المقابر القديمة لقصر مسعد وقد رافقنا في ذلك الأستاذ سليم بجقينة. توجهنا الى "مقبرة المسلمين" القديمة شرق جامع الراس وكانت لنا فيها جولة لم تؤت أكلها. وهي مقبرة قديمة ويوجد فيها قبتان. وفي أعلى القمة الجنوبية المشرفة على المقبرة تظهر بجانب الرادار قبة يقول المتصوفة أنها مقام نزل به سيدي عبد القادر الجيلاني دفين العراق. لماذا تمّ اختيار مسعد لدفن دوبوا ڨيلبير؟ الآن نأتي الى رواية المترجم العسكري آرنو حول دفن "ڨيلبير" في مسعد. وأول سؤال يتبادر إلينا لماذا تقرر دفنه في مسعد؟ ولماذا لم يتم دفنه في الجلفة؟ علما أن أول مقبرة نصرانية في هذه الأخيرة مرتبطة هي الأخرى بانتفاضة بوشندوقة في آفريل 1861 أين تم دفن قتلى الفرنسيين في موقع يقع اليوم ما بين متوسطة الشيخ الرايس ومقر الأروقة الجزائرية سابقا ... بالعودة الى مجريات يوم الخميس 12 أكتوبر 1854 فإن كولونا دورنانو قد سارع في حث الخطى نحو مسعد لأنه قد طلب النجدة من قائد دائرة الأغوط النقيب "ديباراي". وبالتالي فإن أقرب نقطة عسكرية يمكن أن يلتقي فيها القائدان هي مسعد البعيدة عن الأغواط بمسافة حوالي 70 كم. وهي نقطة تسمح أيضا باعتراض الممرات التي قد يسلكها نجع أولاد أم الاخوة الى صحراء مسعد ومنها الى تقرت أين يتواجد شريف ورقلة "محمد بن عبد الله التلمساني". وهذه الممرات مشهورة ونذكر منها فج سلمانة وخنق واد أم ناصر وعبد المجيد ... وقد شهدت مسعد في تلك الفترة بناء جامع الراس مع دار القيادة حيث تم افتتاح المسجد سنة 1858. كما أن فرنسا قد وجدت في "القايد السنوسي" الشخص المناسب الذي ازدهرت في عهد قيادته بساتين قصور مسعد ودمد والحنية. وحسب رسالة الحاكم العام للجزائر بالنيابة، الجنرال بيليسيي، الى وزير الحربية بتاريخ 25 أكتوبر 1854 فإنه كان يوجد في مسعد برج عسكري لمراقبة مراعي أولاد نايل وصولا الى واد جدي. وهي الفترة التي كانت تتميز بشيوع نداء الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي بدعم من الطريقتين الرحمانية التي مثلها في مسعد الشيخ سيدي بن عياش الذي استشهد سنة 1852. أما الطريقة السنوسية فكان يمثلها محمد بن عبد الله في الصحراء علما أن أول زاوية سنوسية في العالم كانت قد تأسست في مسعد على يد المؤسس الأول لهذه الطريقة الصوفية ... يعطينا هذا العرض فكرة واضحة عن اضطرار كولونا دورنانو الى التوجه جنوبا نحو مسعد أين تم دفن القتلى الأربعة واسعاف الجرحى المقدر عددهم ب 09. وهذا كله من أجل التفرغ سريعا لمطاردة أولاد أم الاخوة وسد المنافذ نحو صحراء مسعد وانتظار النجدة من الجلفةوالأغواط وبوسعادة ... والآن يُطرح السؤال أين يقع بالضبط قبر ڨيلبير؟ العثور على موقع قبر ڨيلبير ... والتأكد لاحقا بعد أن أيقنّا بعدم وجود قبور نصرانية في "مقبرة المسلمين" اقترح علينا الدكتور اسماعيل زيان أن نتوجه الى "جبانة جامع التافزة" لكونها تُعرف بوجود قبور للعرب والنصارى فيها . غير أنه يجب الاشارة الى أن المترجم العسكري آرنو قال سنة 1862 أنه قد تم دفن "ڨيلبير" في "مقبرة العرب". تقع "المقبرة القديمة" شمال شرق "جامع الراس" و"مقبرة المسلمين" حيث تفصل بينهما مسافة لا تزيد عن 200 متر. ونلاحظ أن حدود المقبرة هي كالآتي: جامع سيدي رافع (المعروف باسم جامع التافزة أو جامع الوسط) من الجهة الجنوبية وطريق من الجهة الشمالية وشارع من الجهة الغربية وملكية خاصة من الجهة الشرقية. من خلال الملاحظة الأولية للمقبرة يمكن تقسيمها الى جزءين: جزء جنوبي ملاصق للمسجد وقبوره معروفة، وجزء شمالي معظم قبوره مطموسة في حين يوجد مربع على طرف السور يبدو أنه قبر لشخصية مهمة حيث يرتفع حوله جداران من الحجارة لا يتعدى ارتفاعهما 01.5 م. وعندما سألنا عنه قيل لنا أن هذا المربع فارغ ولم يعد يحتوي على الرفاة التي كان يضمها لأنه قد جرى نقلها في سبعينات القرن الماضي الى فرنسا. وهي رفاة مقاول فرنسي اسمه هو "فيدال Vidal" وهو من بنى جامع الراس ويقال أنه قد انتحر حسب الروايات الشفوية. بينما نجد رواية أخرى تتحدث عن نقل جمجمتين لفرنسيين من الموقع المذكور وان كنا نعتقد بان الأمر يتعلق برفاة كاملة وليس جماجم. وأثناء معاينة "المقبرة القديمة" لفت انتباهنا الأستاذ حكيم شويحة الى قبر يتوسط المقبرة وقال ان شكله يختلف عن قبور المسلمين سواء من حيث التوجيه أو من حيث الأبعاد كونه على شكل مربع لا يقل طول كل ضلع من أضلاعه عن 01.5 م ويرتفع عن سطح الأرض بمسافة حوالي 30 سم ... والى هنا بدأت تترجّح لنا الفرضيات لتصب كلها حول أن هذا القبر الكبير يضم رفاة كل من "دوبوا ڨيلبير" والمجنّد "بشر" وهذا لعدة معطيات نوجزها فيما يلي: أولا ... تحدث آرنو في المجلة الافريقية، عدد جويلية 1862، عن دفن قتلى معركة عين الناقة في مسعد ثانيا ... تحدث الحاكم بيليسيي في تقريره عن توجه قافلة دورنانو نحو مسعد ولم يقل أنها رجعت كلها أو بعضها الى الجلفة أو الى أي وجهة أخرى ثالثا ... يتحدث آرنو مرة أخرى في المجلة الافريقية، عدد مارس 1863، عن المبيت بمسعد ثم وقوفه صباحا عند قبر دوبوا ڨيلبير ليتوجه بعدها الى الموقع الروماني مرورا بالبساتين ... ونعتقد أن آرنو قد بات ليلته في دار القيادة الملاصقة لجامع الراس لينزل مباشرة الى قبر دوبوا ڨيلبير القريب من هناك على مسافة لا تتجاوز 200 متر. رابعا ... حسب الرواية الشفوية فإن الفرنسيين قد وجدوا رفاة تحت الموقع الذي اختاروه لبناء جامع الراس فقاموا باستخراجها ونقلها الى "جبانة الموافقية" ... وبالتالي فإنه يوجد تاريخ آخر لمسعد من خلال مقابرها ويستحق البحث المتأني. خامسا ... عندما انتهينا من مهمة المعاينة وافترضنا وجود قبر "ڨيلبير" في "المقبرة القديمة"، رجعنا الى الجلفة واتصلنا بالسيد "بخيتي أحمد" الذي لديه أقارب مدفونون بها وشرحنا له تفاصيل بحثنا التاريخي فتفاعل معنا وأطلعنا على خريطة لقصر مسعد، الواردة ضمن مخطط "دوار أولاد لعور" في خرائط "سيناتوس كونسيلت". وأشار الى موقع اسمه "tombe du Mle des logis De Boisguilbert" بمعنى "قبر ضابط العتاد دوبوا ڨيلبير" ... وهكذا تحققت فرضية فريق البحث وتم ترجيح الموقع الحقيقي لقبر "دوبوا ڨيلبير" وان كان الأمر سيُحسم فيه نهائيا عندما نعلم عن طريق الوثائق هوية الفرنسيين الذين يُفترض استخراج جمجمتيهما بداية السبعينات ... وهي مهمة وان كانت شاقة الا أنها تفتح بابا لوضع جملة من التوصيات نرفعها الى الهيآت الوصية خصوصا ببلدية مسعد. ولعل ما يمكن المطالبة به هو حماية المقابر التاريخية وترميمها وحث الباحثين على ضرورة المزاوجة ما بين البحوث الميدانية والنظرية واستنطاق الوثائق الادارية مثل العقود وخرائط المسح العقاري القديمة لا سيما مخططات سيناتوس كونسيلت. أما فيما يتعلق بقبر دوبوا ڨيلبير فإننا نرفع توصية بضرورة العناية به لأنه شاهد مادي يحكي بطولة قبيلة أولاد أم الاخوة خصوصا وقبائل بلاد أولاد نايل عموما ... وإن هذا القبر اضافة الى قبور شهداء تلك الانتفاضة سيشكل لا محالة شواهد مادية سيكون لها شأن في الحفاظ على تاريخنا المحلي وبطولات أجدادنا ونقل كل ذلك الى الأجيال بوثائقه ورواياته وشواهده ... ملاحظة: اعتمدنا تسميات "مقبرة المسلمين" و"مقبرة المزابيين" و"مقبرة اليهود" و"المقبرة القديمة" بناء على خريطة سيناتوس كونسيلت بيد أن هناك من أهل مسعد من يستعمل مصطلح "جبانة جامع الراس" بالنسبة لمقبرة المسلمين، و"جبانة جامع التافزة" أو "جبانة الموافقية" وأحيانا "جبانة العرب والنصارى" بالنسبة للمقبرة القديمة. والموافقية نسبة لعائلات "برمان وبخيتي والصيد وموفق" حيث يعرف الشارع الشمالي للمقبرة باسم "زقاق الموافقية" الذي يقع بالحي المعروف باسم الرحبة. ** فريق البحث: حكيم شويحة، عبد القادر شويحة، محمد جاب الله، المسعود بن سالم صور الموقع الراجح لقبر دوبوا ڨيلبير مقبرة المسلمين شرق جامع الراس المناطق التي شهدت معركتي الكر والفر بين قافلة دورنانو ومقاومي أولاد أم الاخوة سنة 1854 مقبرة وادي الملاقة ... نعتقد أنها تضم رفاة شهداء أولاد أم الاخوة ليوم 12 أكتوبر 1854 فريق البحث الميداني التاريخي عن شواهد انتفاضة أولاد أم الاخوة 1854