صورة من الأرشيف للمدرسة القرآنية الرحمن بالجلفة هذه الكلِمات كتبتُها تحت تأثير الصّدمة، والزّلزلة التي اعترتْنا جميعًا، على إثرِ مصابِنا الجلل، في إحدى أخواتنا العزيزات، مُدرِّسة علمِ القراءات وخادمة كتابِ الله العزيز، الأستاذة عائشة بلخيري رمضان رحمَها الله. بقامتِها الفارعة، وجلبابِها الأسود الفضفاض، تمشي تستحث الخطى، كأنّما هي تتعجّل اللحظاتِ، ترى بنورِ بصيرتِها أنّ الموت قد يتخطّفها فجأة، فهو لنا بالمرصاد، لِذا كان شعارُها –مِن دوننا-: {فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ}البقرة/148 وفي مدرسة الرّحمن، صباح يومٍ رمضانيّ جميل، كنتُ أراها بوجهِها الوضّاء، تجلس والمصحف بين يديها، تستقبلُ بابتسامتِها المشرقة، الوافدين على موائد القرآن، تُعاتِب في حنانٍ دافق، وتصوِّب بصوتٍ دافئٍ رحيم. شدّني حينها، مرأَى المدرسةِ القرآنيّة –ومع التّاسعة صباحًا- عامرةً بالطّلاب. وفي علمي أنّ النّاس في رمضان يسهرون حتّى الصّباح! في هذه المجالس الإيمانيّة، يصطفّ قبالتها أطفالٌ ما دون العاشرة، يرتّلون آي الذّكرِ الحكيم، وعلى يمينها فتياتٌ في مرحلة الثانوي، تتمازج أصواتُهنّ بالقراءة والتّكرَار. أمّا سيّدات البيوت فيأتينها مسرعاتٍ، للتّسميع والتّصحيح وينصرِفْن مباشرة، على وعدٍ بالتزام الحفظ والإنصات في البيوت، وقد أذهلني هذا الأسلوب في ترغيبهنّ والتّيسير عليهنّ، كي لا يَبقون بمنأى عن موائد القرآن. فاللّهمَّ كما يسّرَتْ عليهنّ، يسِّرْ عليها الحساب. كنتُ أتابعُها باسمةً وهي تشير إلى جوربِها، تمازح أحدَ طلابِها الصّغار قائلة: * انظر يا ولدي، لم أجد وقتًا أستبدله فيه بآخر جديد، فهلاَّ كافأتَ تضحيّتي، وأفرحتَ قلبي بالحفظ والإتقان.. ! فيا ربي، كافئ تضحيتَها وأفرِحْ قلبَها يا كريم.. * * * أَتُرَاها رَحلتْ عائشة!؟ أجل، رحلَتْ عاشقةُ كِتابِ الله، فاضتْ روحُها إلى بارئِها، تقرأ في سورة المائدة، وتحضن المصحفَ إلى صدرِها، فصَعُب افتكاكه من بين يديها. أبَتْ أن تفلته حتّى بعد المَمَات! هاجرتْ إلى الله، تاركة حياة الدّعة والرّاحة والسّكون، رَمَتْ بالدّنيا وراء ظهرِها، واستبدلتْها بما عند الله، {وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وّأَبْقَى}الشورى/36 رحلتْ عائشة، ريحانةُ مسجدِ طارق بنِ زياد، وحمامةُ مدرسة الرّحمن. أَ فَنُهنّئكِ يا عائشة، أم تُرانا نعزّي أنفسَنا فيكِ! فاللّهمّ أكرِمْ وِفادتَها عليك، وأنزلْها منازلَ الأبرارِ. * * * فوا كبدًا طارتْ تصدُّعًا مِن الأسى! تفطّرَ القلبُ، وتجمّدتْ كلُّ المشاعرِ، ولم نجد إلا التّجلّد عزاءً، بمرأى أصغر بنيّاتِها، ترمق النّعش في ذهول، مردّدةً: * لا.. ما ماتتْ أمي، ولا يمكن بحال أن أراها نعشًا، وأُقبِّل جبينَها.. جسدًا بلا حراك، فما ماتتْ أمي.. * لا ما ماتتْ..! أجل يا ابنتي، صدقتِ: {بَل أحْيَاءٌ عِندَ ربِّهِمْ يُرْزَقُوَن}آل عمران/169 بَكيْناكِ جميعًا حتّى جدران بيتِك، لا شك في أنّها بكتْكِ هي الأخرى، لكن بدموعٍ لا نفقه كُنهَها، لأنّها ليستْ كباقي الدّموع. وفي موكبِ العزاء، لاحتْ لي إشارةٌ من إحدى الجارات، تنبِّهني إلى شجرةٍ مثمرة هناك، في ركنٍ قصي في ساحة قصرِك المهيب. خالجَنا إحساسٌ أنّها تشعر بالتّوجّع مثلنا والانقطاع! فيا زهرة نبتتْ في أحضان مسجدِنا العتيق عمر بنِ عبد العزيز، لِيتفيّأ ظلالَها الجميعُ، رحمكِ اللهُ وأسكنكِ فسيحَ الجِنان، نحسبُكِ كذلك ولا نُزكِّي على اللهِ أحدا. ولنا أن نردِّد تأسيّا بالحبيب صلّى اللهُ عليه وسلّم: إنّ العينَ لتدمع، وإنّ القلبَ ليحزن، وإنّا لفراقِكِ يا عائشة لَمَحزونُون، ولا نقول إلا ما يرضي ربّنا، إنّا لِله وإنّا إليه رَاجعُون. وداعًا يا رفيقتَنا.. وداعًا يا عائشة..